القرعة و الاجتهاد و التقليد (الاصول العامة)

اشارة

نام كتاب: القرعة و الاجتهاد و التقليد( الأصول العامة)

موضوع: فقه استدلالى تطبيقى و قواعد فقهى

نويسنده: حكيم، سيد محمد تقى طباطبايى

تاريخ وفات مؤلف: 1423 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 1

ناشر: مجمع جهانى اهل بيت عليهم السلام

تاريخ نشر: 1418 ه ق

نوبت چاپ: دوم

مكان چاپ: قم- ايران

ملاحظات: مباحث قرعه و اجتهاد و تقليد در ص 529 تا آخر كتاب چاپ شده است

الباب الخامس [القرعة]

اشارة

تمحض هذا الباب لبحث (القرعة)، و لكن عدها من مصادر التشريع و إفرادها بباب مستقل فيه شي ء من الغرابة لخروجه على إجماع المؤلفين في علم الأصول.

و لكن نسبة بعض المؤلفين المحدثين، عدها من المصادر الكاشفة عن الحكم، إلى بعض الفرق الإسلامية- كما توهمه عبارته- اقتضانا ان نبحثها على هذا الصعيد، و نلتمس أدلة تشريعها و رتبتها من الأدلة و رأي من نعثر على رأيه من علماء المذاهب فيها وفق ما قدمناه من نهج.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 531

الباب الخامس القرعة تحديد القرعة مشروعيتها أدلة المشروعية: أدلتها من الكتاب، أدلتها من السنة مجالات القرعة الجمع بين أدلتها و أدلة الأحكام الظاهرية خلاصة البحث

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 533

تحديد القرعة:

و هي إحالة السهام أو غيرها بين أطراف مشتبهة لاستخراج الحق من بينها.

مشروعيتها:

اشارة

و الظاهر أن مشروعيتها على سبيل الموجبة الجزئية تكاد تكون موضع اتفاق المسلمين، يقول العلامة السيد حسين مكي- و قد تتبع حكمها في الكتب الفقهية-:

«فقد رأيت الشعراني في كتابه (الميزان) يتعرض إلى القرعة في باب القسمة و كتاب الدعاوي و البينات، و نقل عن الأئمة- إلا أبا حنيفة- جواز الرجوع إلى القرعة في الرقيق، إذا تساوت الأعيان و الصفات، و عند تعارض البينات نسب إلى الشافعي القول بالرجوع إلى القرعة فراجع «1»، و نقل ذلك عن الشافعي و غيره الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي في كتابه «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» «2» المطبوع في هامش «الميزان»، و كذلك الشوكاني ذكر في كتابه «نيل الأوطار» «3» رجوع الفقهاء إلى القرعة حيث لا يوجد طريق شرعي يفصل به بين الخصمين» «4».

و الكتب الفقهية الشيعية لا تأبى الأخذ بها في موارد خاصة شخصتها روايات أهل البيت عليهم السّلام.

______________________________

(1) الميزان للشعراني: 2- 199.

(2) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة بهامش الميزان للشعراني 2- 202.

(3) نيل الأوطار: 8- 302، باب تعارض البينتين و الدعوتين.

(4) عقيدة الشيعة في الإمام الصادق عليه السّلام: ص 369.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 534

أدلة المشروعية:

اشارة

و قد استدل على أصل المشروعية بأدلة من الكتاب و السنة.

أدلتها من الكتاب:

1- قوله تعالى وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ «1».

بتقريب ان المساهمة في اللغة هي المقارعة بإلقاء السهام، و المدحض هو المغلوب. فإذا كان يونس و هو من المرسلين ممن يزاول القرعة، فلا بدّ ان تكون مشروعة إذ ذاك.

2- قوله تعالى ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ «2».

و الآية واردة لحكاية الاقتراع على كفالة مريم، و قد ظفر بها زكريا، و هو من الأنبياء و ممن شارك في الاقتراع.

و الحديث حول تعميم الحجية في هاتين الآيتين- و هما حاكيتان عن وقائع صدرت في شرائع سابقة- يدعونا ان نتذكر ما قلناه في مبحث (شرع من قبلنا) من الخلاف في حجية الشرائع السابقة، فمن ذهب إلى نسخها جملة لا يصلح له الاستدلال بهما.

و من ذهب إلى بقائها جملة- إلا ما ثبت فيه النسخ- ساغ له الاستدلال بهما.

و على مذهب جمهور علماء الحنفية- و هو الّذي أكدناه سابقا و اعتبرنا الأدلة ناهضة به- يسوغ الاستدلال بهما أيضا لإثباتها في الجملة، لأن نفس حكاية القرآن لهما يوجب العلم بوقوع مضمونها و عدم تحريفه، و ما صح من مضامين

______________________________

(1) سورة الصافات: الآيات 139- 141.

(2) سورة آل عمران: الآية 44.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 535

الشرائع السابقة حجة على رأيهم يجب الأخذ بها ما لم يثبت النسخ.

على أن أدلتها القادمة من السنة تدل على إقرار مضامين هاتين الآيتين في ثبوت أصل المشروعية لها.

أدلتها من السنة:

و الأدلة من السنة كثيرا جدا، و قد عقد لها البخاري بابا في جزئه الثاني أسماه باب: (القرعة في المشكلات) «1»،

و إقراع النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بين نسائه- عند ما يريد السفر لأخذ من يخرج سهمها معه- معروف لدى المؤرخين.

و في روايات أهل البيت عليهم السّلام نصوص كثيرة تدل على مشروعيتها، يرجع إليها في مظانها من كتب الفقه و الحديث.

مجالات القرعة:

و إذا كانت القرعة مشروعة في الجملة، فان مشروعيتها ليست محددة في مجالات العمل بها على ألسنة الفقهاء، و استقراء مواقع استعمالها لديهم لا يخرجها عن الموضوعات أو عن قسم منها، بل لا يخرجها عن موارد النصوص و وقائعها الخاصة، على أن في بعض نصوصها تعميمات لكل مجهول أو مشتبه سواء كان المجهول حكما وضعيا أم تكليفيا، و مع ذلك لم يأخذوا بهذه العمومات.

و الّذي يقتضينا- و نحن نريد التقيد بحدود ما تدعو إليه الأدلة- ان نفحص السر في عدم أخذهم بهذه العمومات و نقيمه على ضوء ما انتهينا إليه في بحوثنا الأصولية السابقة.

الجمع بين أدلتها و أدلة الأحكام الظاهرية:

يقول أستاذنا الخوئي قدس سرّه- فيما حكاه بعض مقرري بحثه-: «و الّذي يستفاد من

______________________________

(1) صحيح البخاري: كتاب الشهادات.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 536

مجموع الروايات في القرعة و مواردها انها جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي و لا الظاهري، و هذا المعنى هو المراد من لفظ المشكل في قولهم: «ان القرعة لكل أمر مشكل» و ان لم نعثر على رواية بهذا اللفظ.

و هو المراد أيضا من لفظ المشكل المذكور في متون الكتب الفقهية، فإن المراد من قولهم: هو مشكل أو فيه إشكال، عدم العلم بالحكم الواقعي، و عدم الاطمئنان بالحكم الواقعي و الظاهري لجهة من الجهات، لا عدم العلم و الاطمئنان بالحكم الواقعي فقط، إذ الإشكال بهذا المعنى موجود في جميع الأحكام الفقهية سوى القطعيات.

و بالجملة مورد القرعة، نظرا إلى مورد الروايات الواردة فيها، هو اشتباه الحكم الواقعي و الظاهري، فالمراد من المجهول في قوله عليه السّلام في رواية «كل مجهول ففيه القرعة» «1» هو المجهول المطلق- أي المجهول من حيث الحكم الواقعي و الظاهري-

ثم يقول: و ظهر بما ذكرناه انه يقدم الاستصحاب على القرعة تقدم الوارد على المورود، إذ بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي و الظاهري- على ما ذكرناه- بل يقدم على القرعة أدنى أصل من الأصول، كأصالة الطهارة و أصالة الحل و غيرهما مما ليس له نظر إلى الواقع، بل يعين الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع، إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة بانتفاء موضوعها» «2».

و هذه الاستفادة متينة جدا لو كان لفظ المشتبه موجودا في الروايات. و لكن الموجود فيها «كل مجهول ففيه القرعة» و هي من حيث أخذ الجهل في موضوعها أشبه بأدلة الوظائف الشرعية كالبراءة و الاحتياط، لأخذ عدم العلم فيها، و هذه

______________________________

(1) التهذيب: 6- 240، ح 24. و الفقيه: 3- 92، ح 3389.

(2) مصباح الأصول: ص 342 و ما بعدها.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 537

الأدلة، لو كانت تامة الدلالة لكانت وظيفة من الوظائف التي يجب الرجوع إليها عند العجز عن تحصيل الحكم الواقعي.

و على هذا، فإن تمت استفادة أستاذنا في أن المراد من المجهول هو الأعم من الحكم الواقعي و الظاهري، و لو بمعونة القرائن المستفادة من الموارد الخاصة التي وردت فيها روايات القرعة، كانت هي المتعينة و إلا فلا بدّ من جمع آخر.

و الظاهر أن الجمع بينها و بين ما دل على الرجوع إلى الأصول عند الشك يختلف من حيث مفاد الأدلة.

فأدلة الأصول الإحرازية، نظرا لاعتبارها المشكوك متيقنا، تكون حاكمة عليها و مزيلة للجهل الّذي أخذ في موضوعها تعبدا، و حسابها حساب أدلة البراءة بالنسبة إلى الاستصحاب.

أما أدلة الوظائف الشرعية- براءة أو احتياطا- فنسبتها إليها نسبة

المخصص لبداهة ان لسان أدلة القرعة و هو: «كل مجهول ففيه القرعة» يعم الجهالة بالأحكام الإلزامية و غيرها، و الجهالة بالأحكام الوضعيّة و التكليفية مهما كان منشأ الجهل، و أدلة البراءة إنما تتعرض لخصوص الأحكام التي فيها كلفة، سواء كانت الشبهة فيها موضوعية أم حكمية، فهي أخص من أدلة القرعة فتقدم عليها بالتخصيص و كذلك أدلة الاحتياط.

و على هذا فأدلة القرعة تبقى قائمة في كل ما لم يعرف حكمه الواقعي أو الظاهري، أي فيما لا مجال لمعرفة رأي الشارع فيه مطلقا حكما أو وظيفة لو لا شبهة إسقاطها بكثرة التخصيص.

و بهذا يظهر ان «ما هو المعروف في ألسنتهم من ان أدلة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة، و كثرة التخصيص موجبة لوهنها، فلا يمكن الأخذ بها» «1» لا يخلو

______________________________

(1) مصباح الأصول: ص 342.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 538

من أصالة.

كما يظهر أيضا ان ما نبه عليه الأستاذ أبو زهرة- من «ان في الفقه الإمامي رأيا فيه غرابة، و هو انه عند اشتباه الحلال بالحرام في موضع، اما لتعارض الأدلة أو لعدم وجود دليل، يعمل بالقرعة» «1»- لا أساس له على جميع مباني مجتهدي الشيعة، لأن المرجع في الجميع منها هو البراءة أو الاحتياط على اختلاف في وجهة النّظر في ذلك و هي اما الورود أو التخصيص.

نعم، لا شبهة في أخذهم- شيعة و سنة- بالقرعة في خصوص الموارد المنصوصة و التقييد بنصوصها و هي لا تتجاوز مسائل معينة، كمسألة اشتباه الغنم الموطوءة في قطيع و أمثالها مما وردت في الباب الّذي عقده البخاري لها في صحيحة «2» و غيره من كتب الحديث.

و قد كنا نحب للأستاذ أبي زهرة ان يذكر لنا موردا

واحدا من غير الموارد المنصوصة التي أثارت استغرابه في اعتبار الشيعة القرعة مصدرا من مصادرهم عند تعارض الأدلة، و لم يرجعوا فيها إلى الأصل العملي أو الوظيفة، ليبرر لنفسه ذلك الاستغراب.

خلاصة البحث:

و خلاصة ما انتهينا إليه من بحث ان القرعة ليست موضعا لشبهة في أصل مشروعيتها، إلا ان العمل بها إنما يقتصر على خصوص مواردها المنصوصة، و ليس عندنا من الأدلة ما يرفعها إلى مصاف ما عرضناه من مصادر التشريع سواء ما كان مجعولا لاكتشاف الحكم الشرعي أم الوظيفة على اختلافها، و بخاصة بعد ان كانت أدلتها العامة فاقدة الاعتبار لوهنها بكثرة التخصيص.

______________________________

(1) الإمام الصادق: ص 506.

(2) صحيح البخاري: كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 539

خاتمة المطاف

اشارة

رأينا ان نتعرض في هذه الخاتمة إلى المهم من مباحث (الاجتهاد و التقليد) لا للأخذ بما جرى عليه الأصوليون من تقليد فحسب، بل لما في إثارتها من ثمرات تعود على الفكر الإسلامي اليوم بأعظم الفوائد، بالإضافة إلى صلوحها لأن تكون نماذج تطبيقية لما درسناه من تلكم الأصول، و قد آثرنا ان ندرسها على أساس مقارن تحقيقا للنهج الّذي رسمناه لهذه البحوث في مدخل الكتاب.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 541

خاتمة المطاف

القسم الأول الاجتهاد

(1) تعريفه

اشارة

الاجتهاد لغة و اصطلاحا الاجتهاد بمفهومه العام أخذ الظن في تعريفه و مناقشته أخذ العلم فيه و مناقشة التعريف الاجتهاد بمفهومه الخاصّ

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 543

الاجتهاد لغة و اصطلاحا:

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد، و هو بذل الوسع للقيام بعمل ما، و لا يكون إلا في الأشياء التي فيها ثقل، فيقال: اجتهد فلان في رفع حجر ثقيل، و لا يقال: اجتهد في حمل ورقة مثلا.

و هو في الاصطلاح مختلف في تحديده، و الّذي يبدو أن لهم فيه اصطلاحين مختلفين أحدهما أعمّ من الآخر.

الاجتهاد بمفهومه العام:
اشارة

أما الأول منهما و هو الاجتهاد بمفهومه العام، فقد اختلفت كلماتهم في تحديده اختلافا كبيرا، و الّذي عليه الآمدي و العلاّمة الحلّي و ابن الحاجب هو أخذ الظن في تعريفه.

أخذ الظن في تعريفه و مناقشته:

فقد عرّفه الآمدي ب: «استفراغ الوسع في طلب الظن بشي ء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النّفس العجز عن المزيد عليه» «1».

و عرّفه كل من العلاّمة الحلي و الحاجبي ب «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي» «2».

و جرت على هذا النحو كثير من التعريفات. و الّذي يرد على هذه التعاريف ان الاقتصار على ذكر الظن فيها، يجعلها غير جامعة تارة و غير جامعة و لا مانعة

______________________________

(1) إرشاد الفحول: ص 250.

(2) كفاية الأصول: ص 528. ط. جامعة المدرسين- قم.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 544

أخرى، لأن الظن إن أريد منه خصوص ما قام على اعتباره دليل من شرع أو عقل، كانت التعاريف غير جامعة و ذلك:

1- لخروج العلم بالأحكام عنها لبداهة انها ليست بظن.

2- و خروج ما لم يفد الظن مما قام عليه دليل بالخصوص.

و ان أريد به الأعم من الظن المعتبر و غيره كما هو الظاهر من إطلاق التعبير، كانت بالإضافة إلى ذلك غير مانعة لدخول الظنون غير المعتبرة في هذه التعاريف، مع اتفاقهم- ظاهرا- على عدم اعتبارها من أدلة التشريع.

و قد حاول بعض أساتذتنا- فيما نسب إليه- ان يصحح هذه التعاريف على مذهب الآخذين بالظنون القياسية و الاستقرائية و الاستحسانية ظانا ان هؤلاء انما يعملون بها لأنها ظنون فحسب لا لأنها ظنون معتبرة عندهم بقيام الدليل عليها، مع ان لهم أدلة يذكرونها على حجيتها، و قد سبق عرضها في المباحث السابقة عند التعرض لهذه الأقسام في الباب الأول

من هذا الكتاب.

و الّذي يبدو ان ذكر الظن هنا غير ذي موضوع لعدم وجود أية خصوصية له تبرر ذكره في التعريف، لأن المدار على ما قامت عليه الحجة أفاد الظن أم لم يفده.

و كأنه لذلك عدل غير واحد من الأصوليين عن ذكره و اكتفوا بأخذ العلم فيه.

أخذ العلم فيه و مناقشة التعريف:

فقد عرفه الخضري ب: «بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة» «1». و جرى على ذلك جملة من أعلام الأصوليين.

و الّذي يرد على هذا النوع من التعاريف: ان العلم هنا إن كان قد أرادوا به الأعم من العلم الوجداني و التعبدي، و أرادوا بكلمة الحكم الشرعي الأعم من الواقعي و الظاهري، كانت هذه التعاريف سليمة نسبيا لاندفاع المؤاخذات

______________________________

(1) أصول الفقه للخضري: ص 357.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 545

السابقة عنها، إلا انها تبقى- كسابقتها- محتاجة إلى ضميمة كلمة الوظائف، لتشمل كل ما يتصل بوظائف المجتهد من عمليات الاستنباط، و هذه المؤاخذات واردة على جل الأصوليين حتى المتأخرين منهم كالأستاذ مصطفى الزرقا حيث عرفه ب: «عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة» «1».

لبداهة خروج عمليات استنباط الوظائف من بعض الأصول- كالبراءة، و الاحتياط، و التخيير- عن واقع التعريف، لأن نتائجها ليست أحكاما شرعية كما مر إيضاحه في بحوثها من هذا الكتاب.

و الأنسب- فيما نرى- ان يعرف ب: «ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية، شرعية أو عقلية». و هذا التعريف منتزع مما تبنّته مدرسة النجف الحديثة في علم الأصول «2».

و إنما ذكرنا في التعريف الملكة، خلافا للتعاريف السابقة جميعا، لنبعد ما تشعر به كلمات بعضهم من اعتبار الفعلية في الاستنباط، و ذلك لوضوح ان صاحب الملكة يصدق عليه انه مجتهد،

و إن لم يباشر عملية الاستنباط فعلا.

الاجتهاد بمفهومه الخاصّ:

و قد عرفه الأستاذ خلاف ب: «بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكير و استخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نصّ فيه» «3».

بينما رادف الشافعي بينه و بين القياس، فقال: انهما «اسمان لمعنى واحد» «4».

و في رأي أبي بكر الرازي ان الاجتهاد يقع على ثلاثة معان: «أحدها القياس

______________________________

(1) مجلة حضارة الإسلام: 1- عدد 2- ص 7.

(2) راجع: مصباح الأصول: ص 434.

(3) مصادر التشريع: ص 7.

(4) الرسالة: (للشافعي) ص 477 طبعة مصر.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 546

الشرعي، لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز وجودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب، فذلك كان طريقه الاجتهاد.

و الثاني ما يغلب في الظن من غير علة، كالاجتهاد في الوقت و القبلة و التقويم.

و الثالث الاستدلال بالأصول» «1».

و الّذي يتصل من هذه الثلاثة بالاجتهاد بمفهومه الخاصّ لدى الأصوليين هو المعنى الأول- أعني القياس- أما الثاني فهو أجنبي عن وظائف المجتهدين، لأن الاجتهاد في تشخيص صغريات الموضوعات الشرعية ليس من وظائف المجتهدين بداهة، و المعنى الأخير هو الاجتهاد بمفهومه العام. و اعتبره مصطفى عبد الرزاق مرادفا للرأي و القياس و الاستحسان و الاستنباط «2».

و الغريب ان يرادف بين هذه المعاني و هي مختلفة المفاهيم و يجعلها حاكية عن مفهوم واحد. و لست أظن ان الأستاذ عبد الرزاق يريد ان يقول بالاشتراك اللفظي بينها لعدم التعدد في أوضاعها بداهة.

و الظاهر ان لفظة الاجتهاد- بمفهومها الخاصّ- مرادفة لديهم لمفهوم الرّأي و المعاني الأخرى من قبيل المصاديق لهذا المفهوم، و قد وقع الاشتباه نتيجة للاختلاط في استعماله بين المفهوم و المصداق.

و حديثنا

انما ينصب على خصوص الاجتهاد بمفهومه العام، لدخول الاجتهاد بالمفهوم الثاني ضمن ما يصدق عليه، و قد سبق ان تحدثنا عن هذه الأقسام من الأصول: القياس، الاستحسان .. إلخ، و تعرفنا على ما كان حجة منها من غيره، فلا ضرورة لأن نخصها بعد ذلك بشي ء من الحديث.

______________________________

(1) إرشاد الفحول: ص 250.

(2) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: ص 138.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 547

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (2) أقسامه و معداته

اشارة

تقسيم الاجتهاد بلحاظ طبيعة حججه مناقشة هذا التقسيم الاجتهاد العقلي معدات الاجتهاد العقلي معدات الاجتهاد الشرعي ما يتصل بنسبة النص لقائله ما يتصل منها بمجالات الاستفادة

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 549

تقسيم الاجتهاد بلحاظ طبيعة حججه:
اشارة

و قد قسموا الاجتهاد بلحاظ طبيعة طرقه و حججه المأخوذة في مفهومه بتقسيمات لعل أحدثها تقسيم الدكتور الدواليبي له، يقول: «و توصلا إلى معرفة الأحكام من النصوص الشرعية يتكلم العلماء بعد ذلك عن طرق الكشف عن الأحكام الشرعية، و يمكن ان نقسم ذلك إلى ثلاثة طرق:

1- طريقة الاجتهاد البياني، و ذلك لبيان الأحكام الشرعية من نصوص الشارع.

2- طريقة الاجتهاد القياسي، و ذلك لوضع الأحكام الشرعية للوقائع الحادثة، مما ليس فيه كتاب أو سنة بالقياس على ما في نصوص الشارع من أحكام.

3- طريقة الاجتهاد الاستصلاحي، و ذلك لوضع الأحكام الشرعية، مما ليس فيه كتاب و لا سنة بالرأي المبني على قاعدة الاستصلاح» «1».

مناقشة هذا التقسيم:

و يرد على هذا التقسيم و بعض ما جاء فيه من تحديدات:

1- انه غير جامع لشرائط القسمة المنطقية لعدم استيعابه لأقسام المقسم، مع انه في مقام استيعابها بقرينة تعقيبه على هذا التقسيم بقوله: «و لم أتكلم في الاجتهاد الاستحساني، لأن بعض حالاته تدخل في الاجتهاد القياسي و بعضها

______________________________

(1) المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 389.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 550

الآخر في الاجتهاد الاستصلاحي» «1» لوضوح ان الطرق التي اعتبرها العلماء كاشفة و اعتمدوها في مجالات الاستنباط بلغ بها بعضهم تسعة عشر بابا «2»، و أكثرها لا ترجع لهذه الطرائق الثلاث.

2- ان القياس- كما سبق بيانه- ليس في جميع أقسامه قسيما للاجتهاد البياني بل في بعضها هو قسم منه كالقياس المنصوص العلة، و الّذي يستفاد من عموم أو إطلاق علته عموم الحكم لجميع ما تتعلق به، و الاستصلاح بناء على تعريفه له- أعني الدواليبي- داخل هو الآخر في الاجتهاد البياني لاستفادته من الأدلة العامة، أمثال لا ضرر، و جميع

الموارد التي يدعي إعمال الاستصلاح فيها، إنما هي من مصاديق هذا الحكم الفرعي الشرعي الكلي المستفاد من حديث «لا ضرر» أو قاعدة العدل، لا إنه في مقابلها، و قد مضى منا القول في «مبحث الاستصلاح» بأن التماس المصاديق لأحكام شرعية كلية و تطبيق كلياتها عليها لا يخرج هذه المصاديق بعد التطبيق عن كونها من السنة، و كل أحكام السنة كلية إلا ما ندر منها.

3- تفرقته بين طريقة الاجتهاد البياني و الطريقتين الأخريين، باعتباره الأولى بيانا للأحكام الشرعية، و الثانية و الثالثة (وضعا) لها، مع ان لازم ذلك اعتبار المجتهد مشرعا، و هو خروج على إجماع المسلمين بالإضافة إلى مناقضته لنفسه حين اعتبرها جميعا من الكواشف عن الأحكام الشرعية.

نعم، هذا التعبير لا يلتئم إلا على مبنى من مباني (المصوبة)، و هو المبنى الّذي ينكر جعل الأحكام الواقعية في حقوق الجاهلين و يعتبرها تابعة لظنون المجتهدين، إن صح نسبة القول بوضع الأحكام من قبل المجتهدين إليهم، و لا أظن ان الدكتور

______________________________

(1) المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 389.

(2) رسالة الطوفي: ص 90.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 551

ممن يؤمنون به، بل لا أعرف في علماء الإسلام اليوم من يؤمن به، و ستأتي مناقشته.

و إذا لم يتم هذا التقسيم فالأنسب التركيز- في مجال القسمة لأبوابه- على ما كنا قد استفدناه من اختلافها- من حيث الطريقية أو الحجية- بالذاتية و الجعل الشرعي،

فنقسمه استنادا إلى ذلك إلى قسمين:
1- الاجتهاد العقلي:

و نريد به، ما كانت الطريقية أو الحجية الثابتة لمصادره عقلية محضة غير قابلة للجعل الشرعي، و ينتظم في هذا القسم كل ما أفاد العلم الوجداني بمدلوله كالمستقلات العقلية و قواعد «لزوم دفع الضرر المحتمل» و «شغل الذّمّة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا» و

«قبح العقاب بلا بيان» و غيرها.

2- الاجتهاد الشرعي:

و نريد به كل ما احتاج إلى جعل أو إمضاء لطريقيته أو حجيته- من الحجج السابقة- و يدخل ضمن هذا القسم: الإجماع و القياس و الاستصلاح و الاستحسان و العرف و الاستصحاب، و غيرها من مباحث الحجج و الأصول العملية، مما يكشف عن الحكم الشرعي أو الوظيفة المجعولة من قبل الشارع عند عدم اكتشافه.

و إذا صح هذا التقسيم، فإن علينا ان نبحث كل ما يتوقف عليه من معدات تيسيرا لطالبي الاجتهاد في بلوغ مراتبه.

معدات الاجتهاد العقلي:

و يتوقف الاجتهاد العقلي على خبرة بالقواعد الفلسفية و المنطقية، و بخاصة تلك التي ترتكز عليها أصول الأقيسة بمختلف أشكالها، لأن فيها و في بقية قواعد

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 552

المنطق- كما يقال- العصمة عن الخطأ في الفكر، شريطة ان يتعرف عليها في منابعها السليمة في أمثال معاهد النجف الأشرف من المعاهد الإسلامية التي عنيت بالدراسات المنطقية و الفلسفية، و إدخال الإصلاحات عليها، لا مما أخذ و ترجم حديثا عن الغرب لكثرة ما رأينا فيه من الخلط في المفاهيم، و تحميلها لوازم غريبة ينشأ أكثرها من عدم فهمهم لقسم من المصطلحات، و تحديد مداليلها بكل ما حفلت به من قيود و شروط [1].

معدات الاجتهاد الشرعي:
اشارة

أما الاجتهاد الشرعي فهو متوقف على الإحاطة بعدة خبرات، و هي مختلفة باختلاف تلكم الطرق المجعولة أو الممضاة من قبل الشارع المقدس، فبالنسبة إلى الطرق غير المقطوعة أسانيد أو دلالة، أو هما معا، نحتاج إلى عدة خبرات يتصل بعضها بتحقيق النص و صحة نسبته لقائله، و يتصل بكيفيات الاستفادة من النص في مجالات التماس الحكم أو الوظيفة منه بعد تصحيح نسبته.

أ- ما يتصل منها بنسبة النص لقائله:

أما ما يتصل منها بالقسم الأول فمعداته كثيرة و أهمها:

1- ان يكون على علم بفهرست كل ما يرتبط بهذه النصوص و تبويبها و معرفة مظانها في كتبها الخاصة، أمثال الصحاح و المسانيد و الموسوعات الفقهية، ليسهل عليه التماس ما يريد استنباط الحكم منه من بينها على نحو يوجب له الاطمئنان بعدم وجود ما يخالفها أو يضفي بعض الأضواء عليها.

2- ان تكون له خبرة بتحقيق النصوص و التأكيد من سلامتها من الخطأ أو

______________________________

[1] للتعرف على أوجه الكثير من هذه المفارقات التي حلفت بها الفلسفات الغربية على اختلافها، يحسن الرجوع إلى كتاب (فلسفتنا) للسيد محمد باقر الصدر قدس سرّه، فهو من خيرة الكتب التي عالجت هذه الجوانب إدراكا و مناقشة. (المؤلف).

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 553

التحريف، و ذلك بالبحث عن نسخها الخطية على اختلافها أو المطبوعة على اختلاف طبعاتها و مقارنة بعضها ببعض و اختيار أصحها و أسلمها عند الشك في سلامة النص.

3- التأكد من سلامة رواتها و وثوقهم في النقل بالرجوع إلى الثقات من أرباب الجرح و التعديل.

4- التماس الحجية لها من قبل الشارع، باعتبارها من أخبار الآحاد التي توجب قطعا بمضمونها، و قد عرضنا ما يتصل بهذا الجانب في (مبحث السنة) من هذا الكتاب.

5- ان تكون لنا خبرة بالمرجحات

التي جعلها الشارع أو أمضاها عند التعارض بينها.

ب- ما يتصل منها بمجالات الاستفادة:

و هي كثيرة أيضا و أهمها:

1- أن تكون لنا خبرة لغوية تؤهلنا لأن نفهم مواد الكلمات و نؤرخ لها على أساس زمني، لنتمكن من ان نضعها في مواضعها الطبيعية لها، و نفهمها على وفق ما كانوا يفهمون من معانيها في زمنها.

و لا يشترط فينا أن نكون مستحضرين لمعاني جميع ما ورد في الكتاب أو السنة من الألفاظ اللغوية، بل تكفينا القدرة على استخراجها من مظانها في أمثال كتاب «مفردات الراغب الأصفهاني» في غريب القرآن و «مجمع البيان» للطبرسي و «التبيان» للشيخ الطوسي في التفسير و «مجمع البحرين» للطريحي و «النهاية» لابن الأثير في لغة الحديث.

2- أن نكون على علم بوضع قسم من الهيئات و الصيغ الخاصة، كهيئات المشتقات، و صيغ الأوامر، و النواهي، و العموم، و الخصوص، و الإطلاق،

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 554

و التقييد، و الهيئات الدالة على بعض المفاهيم، و ما إليها من الهيئات التي عنيت ببحثها كتب «أصول الفقه» القديمة، و لم تعن بها كتب اللغويين عناية هامة.

3- ان نحيط معرفة بمسائل النحو و التصريف، بالمقدار الّذي يؤهلنا لتمييز حركات الإعراب، و ما تكشف عنه من اختلاف المعاني.

أما الغوص على استقراء العلل النحوية و الآراء المختلفة فيها، فهذا ما ليس له أية ضرورة بالنسبة إلى وظيفتنا، كطلاب اجتهاد.

4- أن نكون على درجة عالية في فهم أساليب العرب من وجهة بلاغية و تقييمها و إدراك جملة خصائصها.

و هذا ما لا يتأتى لنا في الغالب من دراسة كتب البلاغة التقليدية، لانشغالها عن مهمتها الأساسية بمماحكات لفظية تتصل أكثر ما تتصل بتكثير المصطلحات و تنويعها و إثارة النقاش حولها. أما التماس النصوص البليغة

و دراستها و تقييمها، فهذا ما لا يتفق أن تعني به إلا نادرا.

و ربما ان أهم مصادر التشريع عندنا هما: الكتاب و السنة، و هما في أعلى مستويات البلاغة و بخاصة القرآن الكريم، معجزة الإسلام الخالدة، فإن فهمهما مما يحتاج إلى حس بلاغي لا يتوفر إلا في القليل من البلغاء ممن تكوّن لديهم ذلك الحس، بفضل تتبع و استظهار و تقييم كثير من النصوص البليغة في عصر القرآن و غيره.

5- ان تكون لنا إحاطة تاريخية بالأزمان التي رافقت تكوّن السنة و ما وقع فيها من أحداث، لنستطيع ان نضع النصوص التشريعية في موضعها الزمني، و في أجوائها و ملابساتها الخاصة. و معرفة الملابسة قد تغير دلالة نصّ بأكمله، و ما أكثر ما تنطوي الملابسات على قرائن يصلح بعضها لصرف ذلك النص عن ظاهره أو تقييده في حدود تلكم الملابسة.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 555

و بهذا نرى أنفسنا في أمسّ الحاجة إلى معرفة أسباب النزول في الكتاب العزيز، و البواعث لتبليغ التشريع في السنة- إن كانت- لما يلقيان من أضواء على طبيعة الحكم.

و الّذي نرجوه ان لا يفهم من كلامنا هذا أننا نؤمن بأن المورد أو السبب مما يخصص الوارد أو يدعو إلى تقييده في حدود موارده أو بواعثه، فإن الّذي أردنا ان نقوله ان المورد أو الباعث ربما يكشف عن طبيعة الوارد و نوع ما يعمم له من المصاديق.

و أظن اننا سندرك حاجتنا الكبيرة إلى هذه الخبرة في مجال المقارنة الفقهية القادمة، عند ما نعرض لجملة من الفتاوى المتناقضة و نلتمس أسبابها، فنجد أهواء الحاكمين من وراء هذا التناقض.

و بهذا ندرك قيمة ما أرسله الإمام الصادق عليه السّلام من جعله مخالفة

العامة من أقسام المرجحات «1».

و بخاصة إذا تذكرنا ما قلناه في (مبحث الاستحسان) من أن المراد من العامة أولئك المرتزقة الذين يسيرون دائما في ركاب حكامهم و يفتون على حسب ما يريدونه منهم، و لعل الدعوة إلى سد باب الاجتهاد كان من بواعثها الخيرة غلق الطريق على أمثال أولئك من المتطفلين على موائد الإفتاء ممن كانوا بيد السلطان كالدمى يحركونها كيف ما شاءوا و شاءت لهم سياساتهم الخاصة لتضليل الرّأي العام.

و من هنا نرى كثيرا من السلطات تحفل بأمثال هؤلاء، و تشتري عواطفهم بالمناصب الكبيرة و الكثير من الأموال، و حتى في عصورنا المتأخرة- مع الأسف الشديد- لا نعدم الأمثال الكثيرة على ذلك.

و إذا لم تكن لنا تلك الخبرة التأريخية، فانا لا نستطيع ان نقيم تلك الأخبار

______________________________

(1) الكافي: 1- 67- 68، باب اختلاف الحديث، ح 10.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 556

المتعارضة و نعرف ما خالف العامة منها مما وافقها، و على الأخص إذا تم ما قربناه من ان الأساس في هذا التقييم لم يكن موجها نحو أرباب المذاهب المعروفة اليوم، لعدم وجود بعض أربابها إذ ذاك، و الموجود منهم لم يكن- على درجة من كثرة الأتباع- تخول إطلاق كلمة العامة عليهم، بل لم يكن بعضهم على اتصال بالسلطة الزمنية، كما هو المعروف من تاريخهم.

6- ان تكون لنا خبرة بأساليب الجمع بين النصوص كتقديم الناسخ على المنسوخ، و الخاصّ على العام، و المطلق على المقيد، و كالتعرف على موارد حكومة بعض الأدلة على بعض أو ورودها عليها.

7- ان نكون على ثقة- بعد اجتياز المرحلة السابقة و تحصيل ظهور النص- بحجية مثل هذا الظهور.

هذا كله بالنسبة إلى الطرق الكاشفة عن الكتاب و

السنة سواء ما يتصل بالسند بالنسبة إلى السنة أم الدلالة بالنسبة إليهما، أما الطرق الأخرى الكاشفة عن الحكم أو الوظيفة من غير طريقهما، فحسب الفقيه ان يحيط منها بما حرر في كتب الأصول الموسعة ليعرف الحجة منها من غير الحجة، و يعرف موارد جريانها و أصول الجمع بينها، و لا يقتصر في ذلك كله على الأخذ برأي فريق دون فريق، بل يمحصها جهده و يكوّن لنفسه رأيا، لأن التقليد في أصول الفقه محق للاجتهاد من أساسه، بل الاجتهاد في واقعه لا يعدو معرفة هذه الحجج و موارد تطبيقها معرفة تفصيلية.

و في المبحث اللاحق سنلقي ببعض الأضواء على هذا الجانب لإيضاحه.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 557

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (3) تجزي الاجتهاد و عدمه

اشارة

ملكة الاجتهاد و منشؤها الاجتهاد المطلق الاجتهاد المتجزئ الخلاف في تجزي الاجتهاد و عدمه إحالة الاجتهاد المطلق إمكان الاجتهاد المطلق إمكان التجزي و وقوعه لزوم التجزي القول بعدم الإمكان و سببه أقربية القول بعدم الإمكان خلاصة الرّأي

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 559

ملكة الاجتهاد و منشؤها:

و قد تبين لنا مما تقدم ان ملكة الاجتهاد إنما تنشأ من الإحاطة بكل ما يرتكز عليه قياس الاستنباط سواء ما وقع منه موقع الصغرى لقياس الاستنباط، كالوسائل التي يتوقف عليها تحقيق النص و فهمه أو كبراه، كمباحث الحجج و الأصول العملية.

و سالك طريق الاجتهاد لا يمكن ان يبلغ مرتبته حتى يمر بها جميعا ليكون على حجة فيما لو أقدم على إعمال هذه الملكة.

فالذي يعرف- مثلا- وسائل تحقيق النص و فهمه دون ان يجتهد في معرفة بقية الحجج و الأصول على نحو يكوّن لنفسه فيها رأيا لا يتداخله الوهم أو الشك، لا يسوغ له ادعاء الاجتهاد و لا استنباط حكم واحد لعدم المؤمّن له من قيام حجة يجهلها من الحجج الأخرى على خلاف ما استفاده من النص، و قد تكون سمة هذه الجهة المجهولة لديه سمة الحاكم أو الوارد على ذلك النص.

و إذا صح هذا عدنا إلى ما ذكروه حول إمكان تجزي الاجتهاد و عدمه، و الضوابط التي جعلوها لكل منهما، أعني المجتهد المطلق و المتجزي.

الاجتهاد المطلق:

و أرادوا به «ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي يظفر فيها بها» «1».

______________________________

(1) كفاية الأصول: ص 529- 530 طبعة جامعة المدرسين- قم.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 560

و هذا التعريف قريب من تعريفنا السابق عدا مؤاخذات شكلية لا تستحق التنبيه عليها.

الاجتهاد المتجزئ:

و قد عرفه في الكفاية بقوله: «ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام» «1».

و ربما أوضح كلام الغزالي في المقام ما يمكن ان يراد به من أمثال هذا التعريف حيث قال- بعد ان استعرض العلوم التي يراها ضرورية للمجتهد، و هي قريبة في بعض خطوطها مما ذكرناه في معدات الاجتهاد-: «و اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الّذي يفتي في جميع الشرع.

و ليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ، بل يجوز ان يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض.

فمن عرف طريق النّظر القياسي فله ان يفتي في مسألة قياسية، و إن لم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه ان يكون فقيه النّفس، عارفا بأصول الفرائض و معانيها، و إن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها، و لا تعلق لتلك الأحاديث بها، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا؟ و من عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي و طريق التصرف فيه، فما يضره قصوره عن علم النحو الّذي يعرف قوله تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ «2»؟ و قس عليه ما في معناه.

و ليس من شروط المفتي ان

يجيب عن كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه اللّٰه عن أربعين مسألة، فقال في ستة و ثلاثين منها: لا أدري، و كم توقف الشافعي رحمه اللّٰه بل

______________________________

(1) كفاية الأصول: ص 530.

(2) سورة المائدة: الآية 6.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 561

الصحابة في المسائل.

فإذن لا يشترط إلا ان يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري و يدري أنه يدري، و يميز بين ما لا يدري و بين ما يدري، فيتوقف فيما لا يدري و يفتي فيما يدري» «1».

و هذا الكلام غير واضح لديّ وجهه لغرابة مضمونه، إذ العالم الّذي يعرف القياس و ليست له الخبرة في علم الحديث، كيف يسيغ لنفسه ان يستنبط حكما واحدا من قياسه و ينسبه إلى الشارع المقدس؟ مع انه يحتمل ان يكون في الأحاديث التي يتوقف تصحيحها على علم الرّجال و فهمها على توفر وسائل الظهور، و تقديمها على غيرها عند المعارضة على المرجحات السندية أو الجهتية، و تشخيص رتبتها على أصول الجمع بين الأدلة و الحجج على اختلافها. أقول: مع انه يحتمل ان يكون في هذه الأحاديث ما يوقف الأخذ بهذا القياس.

و ما يقال: من إمكان فرض اجتهاده في البعض، و الرجوع في البعض الآخر إلى غيره من المجتهدين فيها لالتماس موقعها من الأصل، أو القاعدة التي يريد الاجتهاد فيها، لا يجدي في اعتباره مجتهدا، لبداهة ان النتيجة تتبع أخس المقدمتين، و ما دامت بعض مقدماته التي اعتمدها في مقام الاستنباط مأخوذة عن تقليد، فالنتيجة لا تخرجه عن كونه مقلدا، و العلم في دفع تأثير بقية الأدلة الّذي يكون منشؤه غير الاجتهاد لا يجعل صاحبه مجتهدا بداهة.

على أن في هذا النص خلطا بين الاجتهاد كملكة

و إعمال الاجتهاد، و الأمثلة التي ضربها كلها تنتظم في مجالات إعمال الملكة لا في تكوّن أصلها.

الخلاف في تجزي الاجتهاد و عدمه:

و على أي حال، فقد اختلف العلماء، في إمكان كل من الاجتهادين و عدمه

______________________________

(1) المستصفى: 2- 103.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 562

على أقوال بها لا تكاد تلتقي. فالذي يبدو من بعضهم إحالة الاجتهاد المطلق و الأكثرون على إمكانه.

إحالة الاجتهاد المطلق:

و كأن وجهة نظر هؤلاء ما يلاحظونه من قصور البشر بما له من طاقات متعارفة عن استيعاب جميع الأحكام المجعولة لأفعال المكلفين على اختلاف مواضعها، حتى المستجدة منها، و مثل هذا الاستيعاب ممتنع عادة على البشر.

و قد فهموا من الاجتهاد المطلق- فيما يبدو- اعتبار فعلية الاستنباط فيه و فعلية الاستنباط لجميع الأحكام ممتنعة، بينما يرى القائلون ب:

إمكان الاجتهاد المطلق:

انه من قبيل الملكة، التي توفر له القدرة على الاستنباط الأحكام و هي غير ممتنعة عادة.

و على هذا، فالنزاع بينهما مبنائي و كلاهما- في حدود مبناه- على حق، و إنما الخطأ واقع في أحد المبنيين، و سيتضح ان اعتبار فعلية استنباط في مفهوم الاجتهاد، لا وجه له.

إمكان التجزي و وقوعه:

أما التجزي فالأكثر- فيما يبدو من العلماء- هو القول بإمكانه و وقوعه، و هو الّذي تبناه الغزالي و قد مر رأيه، و ابن الهمام «1» و الرازي «2» و جملة من أساتذتنا المتأخرين.

______________________________

(1) المراغي في رسالة الإسلام: س 1- 3- 352.

(2) سلم الوصول: ص 342.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 563

و قد نسب الحجة الرشتي في شرحه للكفاية القول بعدم إمكانه إلى الشذوذ «1».

لزوم التجزي:

و قد تفرد صاحب الكفاية- فيما نعلم- بالقول بلزوم التجزي فضلا عن إمكانه و وقوعه، قال في الكفاية: «و حيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركا، و المدارك متفاوتة سهولة و صعوبة عقلية و نقلية مع اختلاف الأشخاص في الاطلاع عليها، و في طول الباع و قصوره بالنسبة إليها، فرب شخص كثير الاطلاع و طويل الباع في مدرك باب بمهارته في العقليات أو النقليات، و ليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها و ابتنائه عليها.

و هذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه، و لمهارة الشخص مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي للزوم الطفرة» «2».

القول بعدم الإمكان و سببه:
اشارة

و لعل وجهة نظر القائلين بعدم إمكان التجزي هو أخذهم الملكة أو الاستنباط في تعريفه و التزامهم ببساطتهما و عدم إمكان التجزئة فيهما.

و قد أجيب على وجهة النّظر هذه بأن المراد «هو التبعيض في أجزاء الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل، إذ كما ان كل حكم من الأحكام الشرعية في مورد مغاير للأحكام الاخر في موارد اخر، فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها، فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة، و ملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها، و بساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر.

______________________________

(1) حاشية الرشتي على الكفاية: 2- 350.

(2) كفاية الأصول: ص 533 ط. جامعة المدرسين- قم.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 564

و حيث ان مدارك الأحكام مختلفة جدا فرب حكم بهذا المعنى يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة فيصعب استنباطه، و رب حكم لا يبتني استنباطه إلا على مقدمة واحدة فيسهل استنباطه، و مع ذلك يمكن

ان يقال: ان القدرة على استنباط حكم واحد لا تكون إلا مع القدرة على استنباط جميع الأحكام.

و بالجملة، حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الإمكان لا يحتاج تصديقه إلى أكثر من تصوره.

و لعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد من التجزي في المقام، و اشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل، فإن الثاني هو الّذي تنافيه البساطة و لا دخل له في المقام» «1».

و الّذي يبدو لنا من خلال تصورنا لمختلف وجوه المسألة هو:

أقربية القول بعدم الإمكان:

لا لما ذكروه من بساطة الملكة و عدم بساطتها ليقال: «إن التجزئة هي في مصاديق الكلي، لا في أجزاء الكل، أو يقال بان الملكة توجد ضيقة على قدر استنباط بعض الأحكام، ثم تتسع بعد ذلك تدريجا» «2» بل لما قلناه في مدخل البحث: من ان حقيقة الاجتهاد هو التوفر على معرفة تلكم الخبرات أو التجارب على اختلافها، فمع توفرها جميعا توجد الملكة، و مع فقد بعضها تنعدم، لا أنها توجد ضيقة أو يوجد بعض مصاديقها، كما يبدو ذلك من كلام الغزالي السابق.

و لست إخال أن أحدا من الأساتذة يلتزم بأن المجتهد في خصوص مباحث الألفاظ- مثلا- مجتهد متجزّئ لحصوله على بعض مصاديق ملكة الاجتهاد، لأن الملكة التي تحصل من دراسة مباحث الألفاظ لا تكون اجتهادا اصطلاحيا ما لم

______________________________

(1) مصباح الأصول: ص 421 و ما بعدها.

(2) الرشتي في شرح الكفاية: 2- 342.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 565

تنضم إليها بقية الملكات، فالاجتهاد في الحقيقة هو الوحدة المنتظمة لجميع تلكم الملكات.

و كل واحدة من هذه الملكات أشبه ما تكون بجزء العلة لملكة الاجتهاد، فما لم تنضم إليها بقية الأجزاء لا يتحقق معلولها أصلا، و مع

انضمام البقية تتحقق الملكة «مطلقة» و إن لم يستنبط صاحبها مسألة واحدة.

و صعوبة الاستنباط لابتناء بعض المسائل على مقدمات لا تنافي حصول الملكة في أولى مراتبها المستلزمة للقدرة على استنباط هذه الأحكام جميعا.

و نحن لا ننكر ان ملكة الاجتهاد ذات مراتب تقوى و تضعف تبعا لدرجة إعمالها كأية ملكة أخرى، و لكننا نؤمن- مع ذلك- بأن أدنى مراتبها بعد خلقها بتوفر أسسها و معداتها كافية لصدق الإطلاق عليها لقدرة صاحبها على استنباط أية مسألة تعرض عليه، و ان كان الاستنباط في بعضها لا يخلو من صعوبة على المبتدئ لابتنائه على مقدمات طويلة يحتاج استيعابها و التأمل فيها إلى جهد كبير.

و الّذي أظنه ان الخلط بين الملكة و إعمالها هو الّذي سبب الارتباك في كلمات بعضهم. و التجزي في مقام إعمال الملكة يكاد يكون من الضروريات، بل لا يوجد في هذا المقام اجتهاد مطلق أصلا.

و دعوى امتناعه- أعني الاجتهاد المطلق- بهذا المعنى لا تخلو من أصالة لاستحالة إعمال الملكة في جميع المسائل، حتى التي لم توجد موضوعاتها بعد، فاستيعاب جميع مسائل الفقه أمر متعذر على بشر عادي بداهة.

و حتى مع فرض إمكان الاجتهاد المطلق، فالتزام صاحب الكفاية بلزوم القول بالتجزي و وجوب وجوده عادة لا يخلو من وجه لامتناع إعمال الملكة دفعة واحدة في جميع المسائل، بل لا بد في مقام استيعابها من التدرج فيها.

و إذا تمت هذه التفرقة بين الاجتهاد كملكة، و الاجتهاد في مقام إعمالها، اتضح

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 566

الجواب على كل ما استدل به في هذا المورد، كاستدلال الأستاذ عمر عبد اللّه على لزوم التجزي بقوله: «لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم ان يكون المجتهد عالما بجميع الأحكام،

و ذلك باطل قطعا، فقد سئل كثير من المجتهدين عن مسائل، فأجابوا عن بعضها و لم يجيبوا عن البعض الآخر» «1».

و هذه الملازمة انما تتم إذا أراد من الاجتهاد إعمال الملكة، و من العلم بجميع الأحكام فعلية العلم، و إلا فمع الالتزام بكون الاجتهاد ملكة لا يلزم المجتهد العلم بمسألة واحدة فضلا عن جميع المسائل، و الطبيب- بعد تخرجه- طبيب و إن لم يداو واحدا من المرضى.

و كذا لو أراد من العلم شأنية العلم، إذ لا مانع من ان يكون لصاحب الملكة شأنية العلم بجميع المسائل.

و مع تمامية الملازمة فاللازم لا يكون باطلا لما ذكره من سؤال بعض المجتهدين و عدم إجابتهم للجهل بما سئلوا عنه، لجواز ان يتسرب الشك إلى اجتهادهم قبل ان يتسرب إلى القاعدة، فالأنسب تعليل بطلان اللازم بامتناع الإحاطة بجميع الأحكام عادة.

و الغريب ان يقع بعض القائلين بامتناع التجزي بنفس المفارقة من الخلط بين الملكة و إعمالها، فالأستاذ خلاف في الوقت الّذي يعلل فيه عدم التجزي بقوله:

«لأن الاجتهاد- كما يؤخذ مما قدمناه- أهلية و ملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص و استثمار الأحكام الشرعية منها، و استنباط الحكم فيما لا نصّ فيه، فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد و تكونت له هذه الملكة لا يتصور ان يقتدر بها في موضوع دون آخر» «2»، يعود فيقع في المفارقة نفسها عند ما يتم دليله فيقول:

______________________________

(1) سلم الوصول: ص 342.

(2) علم أصول الفقه لخلاف: 262.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 567

«و قد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ أو تعليلا تقرر في أحكام البيع، فلا يكون مجتهدا إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن و السنة حتى يصل من

مقارنة بعضها ببعض و من مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح» «1».

و موضع المفارقة ان العلم بأحكام القرآن أو السنة إنما يحتاج إليه المجتهد في مجالات إعمال الملكة لا مجالات تكونها.

على أن هذا التعميم في العلم لجميع أحكامها لا يحتاج إليه حتى في مجالات إعمال الملكة، و إلا لتعذر عليه استنباط حكم واحد أو تعسر على الأقل، و على الأخص إذا لاحظنا تشعب كتب السنة صحاحا و مسانيد و سننا.

بل يكفيه منها فحصه عن مواضع الأدلة من الآيات و الروايات و غيرهما من كتب الفقه و الحديث، و فحصها على نحو يحصل له العلم بكفاية ما وصل إليه لاستنباط الحكم الّذي يريد استنباطه من أدلته.

خلاصة الرّأي:

و خلاصة ما انتهينا إليه من رأي، ان التوفر على معدات الاجتهاد جميعا هو الّذي يكوّن الاجتهاد كملكة، و مع فقد بعضها و التقليد في البعض الآخر فإن صاحبها لا يخرج عن كونه مقلدا لاتباع النتائج أخس المقدمات بالضرورة.

فملكة الاجتهاد إذن، إما أن توجد مطلقة أو لا توجد أصلا.

______________________________

(1) علم أصول الفقه لخلاف: 262.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 569

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (4) مراتب المجتهدين

اشارة

الاجتهاد و مراتب المجتهدين الاجتهاد المطلق الاجتهاد في المذهب الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها اجتهاد أهل التخريج اجتهاد أهل الترجيح مناقشة هذا التقسيم اجتهاد الشيعة مطلق أو منتسب

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 571

الاجتهاد و مراتب المجتهدين:
اشارة

و إذا عرفنا حقيقة الاجتهاد و المعدات التي يجب ان تتوفر في المجتهد لتشارك في تكوين ملكته، أمكننا ان نقيم ما ذكروه من تقسيم الاجتهاد بلحاظ مراتب المجتهدين.

و قد ذكروا ان للاجتهاد بهذا اللحاظ أقساما خمسة هي:
1- الاجتهاد المطلق:

أو الاجتهاد المستقل، و حددوه ب «ان يجتهد الفقيه في استخراج منهاج له في اجتهاده» على نحو يكون مستقلا في منهاجه و في استخراج الأحكام على وفق هذا المنهاج، أو هو «كما يعبر العلماء مجتهد في الأصول و في الفروع» «1».

2- الاجتهاد في المذهب:

و يريدون به ان يجتهد الفقيه المنتسب إلى مذهب معين في الوقائع على وفق أصول الاجتهاد التي قررها إمام ذلك المذهب. «و قد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الأحكام الفرعية .. و من هؤلاء الحسن بن زياد في الحنفية، و ابن القاسم و أشهب في المالكية، و البويطي و المازني في الشافعية» «2».

و قد أطلق الأستاذ أبو زهرة على الفقيه من هذا القسم اسم «المجتهد المنتسب».

3- الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها:

عن إمام المذهب وفق الأصول المجعولة من قبله، و بالقياس على ما اجتهد فيها

______________________________

(1) الإمام الصادق لأبي زهرة: ص 537.

(2) خلاصة التشريع الإسلامي لخلاف: ص 342.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 572

من الفروع، كالخصاف و الطحاوي و الكرخي من الحنفية، و اللخمي و ابن العربي و ابن رشيد من المالكية، و الغزالي و الأسفراييني من الشافعية «1».

4- اجتهاد أهل التخريج:

و هو الاجتهاد الّذي لا يتجاوز «تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين، فإليهم المرجع في إزالة الخفاء و الغموض الّذي يوجد في بعض أقوال الأئمة و أحكامهم كالجصاص و أضرابه من علماء الحنفية «2».

5- اجتهاد أهل الترجيح:

و يراد به الموازنة بين ما روي عن أئمتهم من الروايات المختلفة، و ترجيح بعضها على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية، كأن يقول المجتهد منهم: «هذا أصح رواية، و هذا أولى النقول بالقبول، أو هذا أوفق للقياس أو أرفق للناس، و من هؤلاء القدوري و صاحب الهداية و أضرابهما من علماء الحنفية «3».

مناقشة التقسيم:

و يرد على هذا التقسيم:

1- خروجه على أصول القسمة المنطقية لخلطه بين قسم من الأقسام و بين مقسمها بجعلها قسيما لمقسمها، و الأنسب توزيعها- من وجهة منطقية- إلى قسمين:

مطلق و مقيد، و المقيد إلى الأقسام الأربعة الأخرى لوجود قدر جامع بينها و هو الاجتهاد ضمن إطار مذهب معين.

2- ان تسمية هذه الأقسام الأربعة بالاجتهاد و جعلها قسما منه في مقابل

______________________________

(1) خلاصة التشريع الإسلامي: ص 343.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 573

الاجتهاد المطلق لا يلتئم مع الواقع الّذي سبق ان ذكرناه من ان الاجتهاد ملكة لا توجد لصاحبها إلا بعد حصوله على تلكم الخبرات و التجارب، و معرفتها معرفة تفصيلية، أو كما قلنا ان الاجتهاد في الحقيقة لا يعدو الاجتهاد في أصول الفقه مع توفر بقية المقدمات، و هو مناط جملة أحكامه الآتية من حرمة التقليد بالنسبة إلى المجتهد و نفوذ قضائه، و جواز رجوع الغير إليه في التقليد أو لزومه أحيانا.

و من الواضح ان المجتهد المقيد ليس مصداقا للمجتهد بهذا المفهوم، لعدم حصول المعرفة التفصيلية لأصول الفقه لديه و اجتهاده فيها.

إذ مع اجتهاده فيها و قيام الحجة لديه عليها، كيف يسوغ له التقيد بأصول مذهبه و السير ضمن إطاره الخاصّ، و ربما اختلف مع إمام المذهب في أصل من الأصول، و

كان لديه مما لا يصلح الاحتجاج به؟ و ما الّذي يصنعه إذ ذاك؟

أ يخالف إمام مذهبه فيخرج عن الانتماء إلى ذلك المذهب أم يخالف رأيه فيعمد إلى العمل بغير حجة؟

3- ان جميع ما ذكروه للاجتهاد من تعاريف لا ينطبق على أي قسم من أقسام المقيد، لأخذهم العلم أو الظن بالحكم الشرعي أو الحجة عليه على اختلاف في وجهة النّظر في مفهومه.

و المجتهد المقيد بأقسامه الأربعة لا ينتهي باستنباطه- إن صح إطلاق كلمة الاستنباط على عمل قسم منهم- إلى الحكم الشرعي، و غاية ما ينتهي إليه هو رأي إمامه فعلا أو تقديرا في كون ما انتهى إليه حكما شرعيا- بحكم ما أعمل من قواعد هذا الإمام و أصوله.

أما العلم أو الظن بكونه حكما شرعيا أو وظيفة كذلك، فإن هذا لا يحصل إلا لمن قامت لديه الحجة التفصيلية على ذلك، و هي لا تكون إلا لإمام ذلك المذهب نفسه، لا للمستنبط وفق قواعده و أصوله.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 574

و الحقيقة أن هذا التقسيم أشبه بتقسيم الشي ء إلى نفسه و إلى غيره، و ما أحسن ما صنعه الأستاذ خلاف حين عدّ هذه الأقسام الأربعة في فصل عهد التقليد من كتابه «خلاصة التشريع الإسلامي» و إن كان قد أطلق كلمة الاجتهاد عليهم تسامحا «1».

اجتهاد الشيعة مطلق أو منتسب:

من رأي أبي زهرة ان اجتهاد الشيعة ليس من قبيل الاجتهاد المطلق، و إنما هو من قبيل الاجتهاد المنتسب لاعتقاده بأنه «رسمت له المناهج من بيان أحكام النسخ و العموم، و طريق الاستنباط و التعارض بين الاخبار و حكم العقل، و إن لم يكن نصّ، و كل هذا يقتضي ان يطبق في اجتهاده لا أن يرسم و يخطط، فهو يسير

في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه و لا يبتعد عنه يمنة و لا يسرة، و بهذا النّظر يكون في درجة المجتهد المنتسب» «2».

و يرد على هذا الرّأي الّذي تبناه- و ربما شاركه فيه غيره من الأعلام- ما ينطوي عليه من تغافل عن وظيفة الإمامة لدى الشيعة، فالذي يبدو أن الأستاذ أبا زهرة كان يرى في أئمة أهل البيت عليهم السّلام، انهم مجتهدون في كل ما يأتون به من أحكام، و حسابهم حساب بقية أئمة المذاهب، مع ان الشيعة لا يرون في أئمتهم ذلك، و إنما يرونهم مصادر تشريع يرجع إليها لاستقاء الأحكام من منابعها الأصيلة، و لذلك اعتبروا ما يأتون به من السنة، و قد سبق أن عرضنا أدلتهم على ذلك في (مبحث السنة) فهم من هذه الناحية كالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الفارق أن النبي يتلقى الوحي من السماء، و هؤلاء يتلقون ما يوحى به إلى النبي من طريقه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم منفردون بمعرفة جميع الأحكام.

______________________________

(1) راجع: ص 324 و ما بعدها من هذا الكتاب.

(2) الإمام الصادق: ص 540.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 575

فأقوال أهل البيت عليهم السّلام إذن مصدر من مصادر التشريع لديهم، و هم مجتهدون في حجيتها كسائر المصادر و الأصول. و لا أقلّ من اعتبار أولئك الأئمة الأطهار، من قبيل الرّواة الذين لا يتطرق إليهم الريب في الرواية، و ما أكثر تصريحاتهم- أعني الأئمة عليهم السّلام- بكون ما يأتون به من أحكام «فإنما هو من أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التي لا يعدونها بحال و بعضه بإملائه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم و بخط علي عليه السّلام» «1».

و على هذا، فالأصول التي خططوها- إن صح هذا التعبير- فإنما هي من تخطيطات الإسلام نفسه، و قد وصلت إليهم من طريق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في بعض هذه الأصول تصريح بذلك.

أما بقية أئمة المذاهب فهم لا يعدون كونهم من المجتهدين الذين يجوز عليهم الخطأ، و لذا كان ما يأتون به من أصول قابلا للنظر فيه، فلا يكون حجة على الغير.

على أن أدلة الشيعة على الحجج- على اختلافها- لم تقتصر على أحاديث أهل البيت عليهم السّلام- و هم عدل الكتاب- بل تجاوزتها إلى الكتاب العزيز، و السنة النبوية، و السيرة القطعية، و بناء العقلاء، و حكم العقل، و غيرها- على اختلاف في صلوح بعضها- للاستقلال بالدليلية أو الانتظام ضمن غيره من الأصول.

و قد مرت علينا نماذج من أصولهم و أدلتهم عليها في هذا الكتاب، و ليس في الكثير منها قول للإمام لتصح نسبة تخطيطها إليه.

و لهذا نرى ان مجتهدي الشيعة لا يسوغون نسبة أي رأي يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل، سواء كان في الفقه أم الأصول أم الحديث، بل يتحمل كل مجتهد مسئولية رأيه الخاصّ.

نعم ما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته إليه. و الحقيقة ان تسمية الشيعة مذهبا في مقابل بقية المذاهب لا أعرف له أساسا ما داموا لا يعتبرون ما

______________________________

(1) راجع: رجال النجاشي: ص 455 ترجمة محمد بن عذافر. (المؤلف).

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 576

يأتي به أئمتهم عاكسا لآرائهم الخاصة، و إنما هو تعبير عن واقع الإسلام من أصفى منابعه، فهم في الحقيقة مجتهدون ضمن إطار الإسلام، و هو معنى الاجتهاد المطلق.

و إنكار أبي

زهرة لهذه الصفة في أئمتهم، و مناقشته لبعض ما جاءوا به من أدلة على عصمتهم، و كونهم من مصادر التشريع لا يخرج مجتهدي الشيعة عن كونهم مجتهدين مطلقين- حتى مع فرض الخطأ فيهم- كمجتهدين- لأن اختلاف أبي حنيفة- مثلا- مع الشافعي في بعض أصوله لا يخرجه عن كونه مجتهدا مطلقا، ما دام أبو حنيفة مؤمنا بمصدره التشريعي.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 577

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (5) الاجتهاد بين الانسداد و الانفتاح

اشارة

سد باب الاجتهاد بواعثه و عوامله أدلة حجيته الاستدلال بالإجماع و مناقشته انضباط المذاهب و كثرة الاتباع و مناقشتهما الشيعة و فتح باب الاجتهاد

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 579

سد باب الاجتهاد:
اشارة

و أرادوا به حظر الاجتهاد بعد ان تم غلق أبوابه- على يد بعض السلطات على جميع المكلفين- و حصر الرجوع إلى خصوص المذاهب الأربعة.

بواعثه و عوامله:

و قد أرجع الأستاذ عبد الوهاب خلاف ذلك إلى عوامل أربعة «1» نشير إلى أهم خطوطها و هي:

1- انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك، و تناحر ملوكها و وزرائها على الحكم مما أوجب انشغالهم عن تشجيع حركة التشريع، و انشغال العلماء تبعا لذلك بالسياسة و شئونها.

2- انقسام المجتهدين إلى أحزاب لكل حزب مدرسته التشريعية و تلامذتها، مما دعا إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة أصولا و فروعا و هدم ما عداها «حتى صار الواحد منهم لا يرجع إلى نصّ قرآني أو حديث إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه و لو بضرب من التعسف في الفهم و التأويل.

و بهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته، و ماتت روح استقلالهم العقلي، و صار الخاصة كالعامة أتباعا و مقلدين» «2».

3- انتشار المتطفلين على الفتوى و القضاء، و عدم وجود ضوابط لهم، مما ادى إلى تقبل سد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع و تقييد المفتين و القضاة بأحكام

______________________________

(1) خلاصة التشريع الإسلامي: ص 341 و ما بعدها.

(2) المصدر السابق.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 580

الأئمة حيث عالجوا الفوضى بالجمود.

4- شيوع الأمراض الخلقية بين العلماء و التحاسد و الأنانية «فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد فتح على نفسه أبواب التشهير به، و حط أقرانه من قدره، و إذا أفتى في واقعة برأيه قصدوا إلى تسفيه رأيه و تفنيد ما أفتى به بالحق و بالباطل، فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه و تجريحهم بأنه مقلد و ناقل، لا مجتهد و مبتكر، و بهذا

ماتت روح النبوغ و لم ترفع في الفقه رءوس و ضعفت ثقة العلماء بأنفسهم و ثقة الناس بهم» «1».

و هناك عامل خامس، كاد أن يسد باب الاجتهاد عند الشيعة الإمامية بالخصوص في القرن الخامس الهجري، و هو عظم مكانة الشيخ الطوسي و قوة شخصيته التي صهرت تلامذته في واقعها، و أنستهم أو كادت شخصياتهم العلمية، فما كان أحد منهم ليجرؤ على التفكير في صحة رأي لأستاذه الطوسي أو مناقشته.

و قد قيل: ان ما خلفه الشيخ الطوسي من كتب الفقه و الحديث كاد أن يستأثر في عقول الناس فيسد عليها منافذ التفكير في نقدها ما يقارب القرن «2».

و قد كان لموقف ابن إدريس- و هو من أكابر العلماء لدى الإمامية- فضله الكبير في إعادة الثقة إلى النفوس و فسح المجال أمامها لتقييم هذه الكتب و نقدها و النّظر في قواعدها.

و لو لا موقفه المشرف إذ ذاك، لكان الاجتهاد إذ ذاك ضحية من ضحايا التقديس و الفناء في العظماء من الناس.

و هذه العوامل التي ذكرها الأستاذ خلاف، و إن كان أكثرها لا يخلو من أصالة، إلا انها لا تقوى على تكوين العلة التامة لهذا الحظر.

و الظاهر ان سياسة تلكم العصور كانت تخشى من العلماء ذوي الأصالة في

______________________________

(1) خلاصة التشريع: ص 342.

(2) محمود الشهابي، مقدمة فوائد الأصول.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 581

الرّأي و الاستقامة في السلوك، و هم لا يهادنون على ظلم و لا يصبرون على مفارقة، فأرادت قطع الطريق على تكوين أمثالهم بإماتة الحركة الفكرية من أساسها، و ذلك بسدها لأهم منبع من منابعها الأصيلة و هو الاجتهاد.

أدلة حجيته:
اشارة

و الغريب ان نجد في المتأخرين عن ذلك العصر من يحاول التبرير الشرعي لجملة

هذه التصرفات، بالتماس أدلة توجب هذا الحظر و تلزم باستمراره.

يقول صاحب الأشباه: «الخامس مما لا ينفذ القضاء به: ما إذا قضى بشي ء مخالف للإجماع و هو ظاهر، و ما خالف الأئمة الأربعة مخالف للإجماع، و إن كان منه خلاف لغيره، فقد صرح في التحرير ان الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة، لانضباط مذاهبهم و كثرة أتباعهم» «1».

و قد رأينا في المتأخرين من يوافقه على هذا الحكم كالشيخ محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتيا في الأزهر الشريف و زملائه في اللجنة «2».

و الأدلة التي ذكرها صاحب الأشباه هي:

1- الإجماع.

2- انضباط المذاهب الأربعة و كثرة أتباعهم.

1- الاستدلال بالإجماع و مناقشته:

و قد نسب ابن الصلاح هذا الإجماع إلى المحققين «3» لا إلى المجتهدين، و هذا طبيعي لافتراضه قيام الإجماع بعد انسداد باب الاجتهاد.

و قد ناقش الشيخ المراغي (و هو من دعاة حرية الفكر) هذا الإجماع صغرى

______________________________

(1) الاجتهاد في الشريعة للمراغي: ص 357 من مجلة رسالة الإسلام: س 1- ج 3 نقلا عنه.

(2) عبد المتعالي الصعيدي في كتابه (من أين نبدأ): ص 114.

(3) الاجتهاد في الشريعة للمراغي: ص 357 من رسالة الإسلام: س 1- ج 3 نقلا عنه.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 582

و كبرى.

أما مناقشته من وجهة صغروية فقد شكك في إمكان تحصيل هذا الإجماع، و قال: «ان محققي العلماء يرون استحالة الإجماع و نقله بعد القرون الثلاثة الأولى نظرا لتفرق العلماء في مشارق الأرض و مغاربها، و استحالة الإحاطة بهم و بآرائهم عادة.

و هذا رأي واضح كل الوضوح لا يصلح لعاقل ان ينازع فيه، و إذا كان هذا واضحا بالنسبة لإجماع المجتهدين، و هم أقل عددا بلا ريب من المحققين، فكيف عرف إجماع

المحققين؟» «1».

ثم تساءل بعد ذلك عن قيمة ابن الصلاح- مدعي هذا الإجماع- و مدى صلاحيته للأخذ برأيه «ابن الصلاح هذا فقيه مقلد، فكيف يؤخذ برأي فقيه مقلد ليس واحدا من الأئمة الأربعة؟ و كيف ينسخ الإجماع برأي واحد لا يصلح تقليده و الأخذ بقوله؟» «2».

و أما مناقشته من وجهة كبروية فقد انصبت على إنكار الدليل على حجية مثل هذا الإجماع، يقول: «ليس لإجماع المحققين قيمة بين الأدلة الشرعية، فهي محصورة: كتاب اللّٰه و سنة رسوله، و إجماع المجتهدين، و القياس على المنصوص، و لم يعد أحد من الأدلة الشرعية إجماع المحققين، فكيف برز هذا الإجماع و أخذ مكانته بين الأدلة، و أصبح يقوى على نسخ إجماع المسلمين؟» «3» إلى آخر ما جاء في بحثه القيم من مناقشات لقيمة هذا الإجماع.

و خلاصة الرّأي في ذلك أنّا قد استقرأنا فيما سبق في (مبحث الإجماع) «4» أدلة

______________________________

(1) الاجتهاد في الشريعة للمراغي: ص 357 من رسالة الإسلام: س 1- ج 3 نقلا عنه.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) راجع: ص 241 و ما بعدها من هذا الكتاب.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 583

العلماء على حجية الإجماع، فلم نجد فيها ما يشير إلى حجية إجماع المحققين.

فالاستدلال اذن بالإجماع في غير موضعه، لعدم قيام الدليل على حجية مثله، على أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.

2- انضباط المذاهب و كثرة الاتباع و مناقشتهما:

و هاتان العلتان- سواء أراد بهما التعليل لأصل الحكم أم للإجماع- غريبتان عن الأدلة جدا، إذ متى كانت كثرة الاتباع و انضباط المذاهب من الحجج المانعة عن الأخذ بقول الغير، و ربما كان الغير أعلم و أوصل إلى الحكم الواقعي، و فتواه موجودة محررة يمكن الحصول عليها، كما إذا كان معاصرا للمستفتي

يمكنه الرجوع إليه بسهولة.

على أني لا أكاد أفهم كيف تكون القابليات المبدعة وقفا على فئة من الناس عاشوا في عصور معينة (و لم يتميزوا في عصورهم بظاهرات غير طبيعية)؟ مع ان طبيعة التلاقح الفكري توجب خلق تجارب جديدة في مجالات الاستنباط، و العقول لا تقف عند حد، فكيف يمكن ان يقال لأصحاب هذه التجارب- الذين ملكوا تجارب القدماء و درسوها و ناقشوها و أضافوا عليها من تجاربهم الخاصة-: ان هؤلاء القدماء أوصل منكم و أعلم، و عليكم تمجيد عقولكم و الأخذ بما يقولون و إن بدت لكم مفارقات ما جاءوا به من آراء؟!! و ما أحسن ما قاله الأستاذ المراغي، و هو ينعى على دعاة الجمود موقفهم من حرية الفكر: «ليس مما يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر أن يقال عنها ان ما يدرس فيها من علوم اللغة و المنطق و الكلام و الأصول لا يكفي لفهم خطاب العرب، و لا لمعرفة الأدلة و شروطها، و إذا صح هذا فيا لضيعة الأعمار و الأموال التي تتفق في سبيلها» «1»، ثم يقول: «و اني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة

______________________________

(1) المراغي في بحثه السابق في رسالة الإسلام: س 1- ج 3 ص 350 و ما بعدها.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 584

الاجتهاد أخالفهم في رأيهم، و أقول: ان في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيه شروط الاجتهاد و حرم عليه التقليد» «1».

و الشي ء الّذي لم أملك تماما توجيهه في كلامه- بعد هذه الدعوة الهادفة- هو قوله: «و الواقع أنه في أكثر المسائل التي عرضت للبحث و أفتى الفقهاء فيها لم يبق للمجتهد إلا اختيار رأي من آرائهم فيها، أما الحوادث التي

تجد فهي التي تحتاج إلى آراء محدثة» «2».

و الّذي يوحي به كلامه، أنه فهم من الاجتهاد انه إحداث رأي جديد، و هو لا يكون إلا في الأمور المستحدثة لاستيعاب الفقهاء مختلف الأقوال في المسألة المبحوثة غالبا، و وظيفة المجتهد بالنسبة إليها اختيار واحد منها.

مع أن الاجتهاد، كما سبق تحديده، ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف، سواء كانت موافقة لآراء غيره أم مخالفة.

و كونهم مستوعبين للأقوال في المسألة لا يسقط عنه وظيفة إعمال ملكته في مقابلهم، حتى ينتهي إلى الرّأي الّذي يراه موافقا للحجة من بينها.

و لما ذا يختار رأيا من آرائهم؟ أ لأنه يعتقد ان أولئك السابقين أوصل منه و أعرف؟ كيف و أصولهم و مبانيهم بيده، و فيها ما لا يرتضيه لعدم قيام الحجة عنده عليه، و لما ذا يفضّل رأيا على رأي إذا لم يعمل اجتهاده في مقام التفضيل؟

الشيعة و فتح باب الاجتهاد:

فالحق- كما ذهب إليه الشيعة- هو فتح باب الاجتهاد المطلق، و هو الّذي تقتضيه جميع الأدلة التي ذكروها على وجوب المعرفة عقلية و نقلية. و هذه الاعتبارات التي ذكروها لعدم الحجية لا تصلح لإيقاف تلكم الأدلة و نسخها.

______________________________

(1) المراغي في بحثه السابق في رسالة الإسلام: س 1- ج 3- ص 350 و ما بعدها.

(2) المصدر السابق.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 585

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (6) أحكام المجتهد

اشارة

حجية رأيه بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته التفصيل بين المتجزئ و عدمه جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه و عدمه جواز رجوعه إلى الغير مع عدم إعمال ملكته و عدمه

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 587

أحكام المجتهد:

و الحديث حول أحكامه يقع في مواقع ثلاثة:

1- حجية رأي المجتهد بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته.

2- جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه و عدمه.

3- جواز رجوعه إلى الغير- فيما يبتلى به من المسائل- مع عدم إعمال ملكته و عدمه.

1- حجية رأيه بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته:
اشارة

و الّذي يبدو لي- في حدود ما رأيت- ان كلمة الأعلام تكاد تتفق على حجية رأيه و لزوم العمل به، و عدم جواز رجوعه إلى الغير في الجملة، و ذلك باستثناء ما مر من آراء ابن الصلاح و من تبعه.

و السر في ذلك واضح بعد ما اتضح من بحوثنا السابقة مفهوم الحجية و كونها من اللوازم العقلية القهرية لطريقية العلم. إذ المجتهد- بناء على ما انتهينا إليه من مفهوم الاجتهاد- إذا أعمل ملكته و انتهى إلى رأي، فهو إما عالم بالحكم الواقعي علما وجدانيا أو علما تعبديا- بواسطة جعل الشارع للطريقية أو الحجية- أو يكون عالما بإحدى الوظيفتين الشرعية أو العقلية على نحو ترتبها السابق.

و مع فرض حصول العلم لا يبقى مجال للتصرف الشرعي، فلا يمكن ان يقال للمجتهد العالم بالمسألة: إنك لا يسوغ لك ان تعمل بعلمك و عليك الرجوع إلى الغير و استشارته فيما تراه حاصلا لديك من الواقع. نعم للشارع ان يرفع بعض الحجج الموقوفة على جعله أو إمضائه فيذهب عليه المستند إليها. أما مع بقائها

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 588

و بقاء

علمه المستند إليها، فإن الشارع لا يمكن له ان يتصرف فيها لأنها كما سبق بيانه غير واقعة تحت تصرفه كمشرع، و ان وقعت تحت قبضته كخالق و مكوّن.

و مع هذا الفرض و تماميته لم نعد بحاجة إلى التماس أدلة على الحجية.

و ربما استدل على جواز تقليده لغيره في هذه الصورة بشمول أدلة التقليد له.

و يرد على هذا الاستدلال خروجه عن هذه الأدلة بالتخصص لبداهة ان موضوعها قد أخذ فيه عدم العلم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* «1».

و السيرة العقلائية إنما قامت على رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله.

و لا يفرق في هذا الحكم بين رجوعه إلى مثله في المعرفة أو الأعم منه، لأن الأعلمية المفروضة ان أوجبت له تشكيكا في صحة مستنده، كأن يكون قد اطلع على وجهة نظره فأقرها، أو أثارت لديه الشكوك، فهو خارج عن الفرض لعدم وصوله إلى الحكم، و الكلام إنما هو فيمن أعمل ملكته و وصل إلى الحكم من طريقها، و ان لم توجب له التشكيك فيما وصل إليه و بقي مصرا على وجهة نظره، فهو في الحقيقة يرى نفسه أوصل منه في هذه المسألة، فكيف يسوغ له الرجوع إليه. فما أوهم هذا التفصيل في كلمات البعض لا يبدو له وجه.

نعم، هناك تفصيل يذكر بالنسبة إلى المتجزئ و عدمه.

التفصيل بين المتجزّي و عدمه:

و الّذي يظهر ان القائلين بالتجزي مختلفون على أنفسهم، فبعضهم يرى لزوم رجوع المتجزئ إلى غيره من المجتهدين، كصاحب المعالم قدس سرّه و والده قدس سرّه و جده قدس سرّه إذا صحت استفادة ذلك من كلامهم، بينما خالفهم العلامة قدس سرّه و الشهيد قدس سرّه و صاحب الكفاية قدس سرّه و غيرهم.

______________________________

(1) سورة النحل: الآية 43.

القرعة و

الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 589

و قد استدل صاحب الكفاية بعدم اختصاص أدلة المدارك بالمتصف بالاجتهاد المطلق، و أضاف الحجة الرشتي على ذلك بأنه «كيف يرفض ظنه و يأخذ بظن المجتهد المطلق مع انه يخطئه في ظنه؟ و هل هذا إلا رجوع العالم إلى الجاهل؟» «1».

و الحقيقة انه بعد تسليم إمكان التجزي و وقوعه لا يبقى مجال للقول بعدم الحجية لنفس ما قلناه سابقا من أنه بعد فرض الالتزام بكونه عالما بما قامت عليه الحجة، كيف يمكن ان يقال له: ان علمك ليس بحجة عليك، مع ان الحجية من لوازم العلم القهرية؟

و الّذي يظهر من إطلاق الاتفاق في كلمات الغزالي ان عدم جواز رجوعه إلى الغير مطلقا مفروغ عنه، يقول في المستصفى: «و قد اتفقوا على انه إذا فرغ من الاجتهاد و غلب على ظنه حكم، فلا يجوز له ان يقلد مخالفه و يعمل بنظر غيره و يترك نظر نفسه» «2». و كذلك الآمدي «3».

2- جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه و عدمه:

أما جواز إفتائه على وفق ما وصل إليه من رأي، فهو أيضا لا يقتضي ان يكون موضعا لإشكال، لما تقدم بيانه من ان من لوازم الحجية العقلية جواز نسبة مؤدى ما قامت عليه إلى مصدرها من شارع أو عقل. و ليس المراد من الفتوى إلا الإخبار عما يراه من حكم أو وظيفة.

و الظاهر أن جميع ما ورد من الأدلة على جواز الإفتاء يكون من قبيل الإرشاد إلى هذا اللازم العقلي، إذ مع فرض كونه من اللوازم العقلية للحجية لا يكون قابلا للوضع أو الرفع.

______________________________

(1) الكفاية و شرحها للشيخ الرشتي: 2- 351.

(2) المستصفى: 2- 121.

(3) أحكام الأحكام: 3- 158.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 590

3- جواز رجوعه إلى الغير مع عدم إعمال ملكته و عدمه:

اختلف الأعلام في جواز الرجوع إلى الغير مع جهله بالحكم لعدم إعمال ملكته للوصول إليه.

فالجبائي لا يسوغ الرجوع لغير الصحابي، و يرى ان تقليده مع ذلك خلاف الأولى، و به قال الشافعي في رسالته القديمة و جوز بعضهم الرجوع إلى الصحابة و التابعين دون من عداهم «1»، و فصّل محمد بن الحسن بين الأعلم و غيره، فأجاز تقليد الأعلم دون غيره ممن هو دونه أو مثله، كما فصّل قوم بين ما يخصه و ما يفتي به، فأجازوا في الأول و منعوا في الثاني، و هناك تفصيل آخر فيما يخصه بين ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد، و ما لا يفوت حيث أجيز في الأول و منع في الثاني «2»، بينما أطلق الجواز كل من: أحمد بن حنبل، و إسحاق بن راهويه، و الثوري، و لأبي حنيفة روايتان «3».

و العمدة في هذا المجال التماس أدلة جواز التقليد و النّظر في عمومها أو إطلاقها لشمول مثله.

و عمدة الأدلة كما يأتي

بناء العقلاء الممضى قطعا من قبل الشارع، و لعل في أمثال آيتي النفر «4» و سؤال أهل الذّكر «5»، ما يكفي لإثبات ذلك الإمضاء.

و الظاهر ان بناء العقلاء، إنما يفرق بين خصوص القادر على إعمال ملكته و عدمه. فالقادر على إعمالها لسعة الوقت و توفر أدوات البحث لا يرى معذرا له في ترك إعمالها لعدم انطباق عنوان الجاهل عليه، و هو إنما يقر رجوع الجاهل إلى

______________________________

(1) اقرأ هذه الأقوال في الأحكام للآمدي: 3- 158.

(2) اقرأ هذه التفصيلات في المستصفى: 2- 122.

(3) الآمدي في الأحكام: 3- 158.

(4) فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة: الآية 122].

(5) فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* [سورة النحل: الآية 43].

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 591

العالم لا غير. و لكنه يجيز لغير القادر ذلك، فالطبيب الّذي يصاب ببعض العوارض و يخشى على نفسه من فوات الفرصة فيما لو أراد ان يعمل ملكته لفقده بعض أدوات عمله، يرجع عادة إلى استشارة طبيب آخر يثق بمعارفه. و هكذا بالنسبة إلى المتدرج في إعمال ملكته و لنفرضه جديد عهد بالملكة.

فلو قدر لمثل هذا ان لا يصدر إلا عن هذه الملكة، لتعذر عليه استيعاب جميع تكاليفه، و بخاصة إذا كان هو لا يرى جواز الاحتياط في بعض المسائل، أو كانت مما يتعذر فيها الاحتياط.

فالذي يقتضيه بناء العقلاء على هذا الرجوع إلى الغير لتحصيل المؤمّن فيما يقدم عليه أو يتركه من إعمال.

و ممن اختار هذا التفصيل المحقق القمي قدس سرّه صاحب «القوانين المحكمة» حيث قال- بعد ان عرض رأي المانعين مطلقا-: «و دليل المانع وجوب العمل

بظنه إذا كان له طريق إليه إجماعا، خرج العامي بالدليل و بقي الباقي، (و فيه) منع الإجماع فيما نحن فيه، و منع التمكن من الظن مع ضيق الوقت، فظهر ان الأقوى الجواز مع التضييق، و اختصاص الحكم به» «1».

و الظاهر من الجواز هنا الجواز بالمعنى العام في مقابل المنع لا الإباحة، لتعين الرجوع إلى الغير في هذا الفرض.

و إذا صح هذا اتضحت أوجه المناقشة في جميع تلكم الأقوال، إذ لا دليل عليها، و غاية ما يدل عليه دليل الجواز هو هذا المقدار و ليس في الأدلة كل هذه التفصيلات التي ذكروها، فلا حاجة إلى الإطالة بردها.

______________________________

(1) القوانين المحكمة: 2- 163.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 593

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (7) التخطئة و التصويب

اشارة

الخلاف في مسألة التخطئة و التصويب القول بالتصويب و الخلاف فيه التصويب الأشعري و مناقشته التصويب المعتزلي و مناقشته القول بالتخطئة و حجيته القول بالمصلحة السلوكية و مناقشته

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 595

الخلاف في مسألة التخطئة و التصويب:
اشارة

و قد اختلفوا في ان المجتهد مصيب دائما في كل ما تنهي إليه حججه، أو انه قابل للخطإ. و الأقوال في التخطئة و التصويب ثلاثة: قول بالتصويب، و قول بالتخطئة، و ثالث أخذ منهما معا بعض جوانبها.

1- القول بالتصويب و الخلاف فيه:
اشارة

و المصوّبة اختلفوا على أنفسهم، فالذي عليه محققو المصوبة كما يقول الغزالي:

«انه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن، و حكم اللّه تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه، و هو المختار و إليه ذهب القاضي و ذهب قوم من المصوبة إلى ان فيه حكما معينا يتوجه إلى الطلب، إذ لا بد للطلب من مطلوب، لكن لم يكلف المجتهد اصابته، فلذلك كان مصيبا و إن أخطأ ذلك الحكم المعين الّذي لم يؤمر بإصابته، بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه» «1».

و قد عرف القسم الأول من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الأصوليين بالتصويب الأشعري، كما عرف القسم الثاني بالتصويب المعتزلي «2».

التصويب الأشعري و مناقشته:

و قد أطال الغزالي بتقريبه و دفع ما أورد عليه من الشبه، و كل ما جاء به لا

______________________________

(1) المستصفى: 2- 109.

(2) فوائد الأصول: 1- 142.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 596

يخلو من خلط بين الأحكام في مرحلة الجعل و الأحكام في مرحلة التبليغ و بينهما و بين الأحكام في مرحلة الفعلية.

كما وقع في مفارقة ان أحكام الشارع هي خطاباته، مع ان الخطابات إحدى مبرزات أحكامه لا انها عين الأحكام، و لا منافاة بين ان يكون هناك حكم و لا يكون خطاب به.

و بهذا ندرك أوجه المفارقة في كلامه الّذي لخص به وجهة نظره حيث قال:

«و الكلام الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول: المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نصّ و إلى ما لم يرد.

أما ما ورد فيه نصّ، فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه و

عثر عليه، أو كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه، فهذا مطلوب المجتهد و طلبه واجب، و إذا لم يصب فهو مقصر آثم.

أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع، كما في النهي عن المخابرة و تحويل القبلة قبل بلوغ الخبر، فقد بينّا ان ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه، لكنه عرضة ان يصير حكما فهو حكم بالقوة لا بالفعل، و إنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه، فمن قال: في هذه المسائل حكم معين للّه تعالى، و أراد به انه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه، و قبل البلوغ و تيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق، و إن أراد به غيره فهو باطل.

أما المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم انه لا حكم فيها، لأن حكم اللّه تعالى خطابه، و خطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السّلام أو سكوته، فإنه قد يعرفنا خطاب اللّه من غير استماع صيغة، فإذا لم يكن

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 597

خطاب لا مسموع و لا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند اللّه حراما فمعنى تحريمه انه قيل فيه لا تشربوه، و هذا خطاب و الخطاب يستدعي مخاطبا، و المخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون، و لا بد ان يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين، و متى خوطبوا و لم ينزل فيه نصّ، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به و

لا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق، فإذن لا يعقل خطاب لا مخاطب به، كما لا يعقل علم لا معلوم له و قتل لا مقتول له، و يستحيل ان يخاطب من لا يسمع الخطاب و لا يعرفه بدليل» «1».

و لإيضاح مواقع المفارقة في كلامه هذا نضرب المثل في القوانين التي تشرعها الدول و المراحل التي تمر بها و هي ثلاث:

1- مرحلة التشريع، و هي المرحلة التي ينتزع فيها القانون شرعيته بتصديق البرلمان أو أية جهة مسئولة عنه، و ربما اقتضت المصلحة تأجيل تنفيذه و إبلاغه للمواطنين.

2- مرحلة التبليغ، أي مرحلة مخاطبة المواطنين به و إلزامهم بالسير على وفقه.

3- مرحلة الفعلية، أي مرحلة وصول القانون إليهم و تبلغهم به.

و مرحلة تنجز التكاليف التي عرض لها القانون هي مرحلة الفعلية، و على أساسها يكون الثواب و العقاب، و إلا فمرحلة التشريع أو التبليغ إذا لم يصل الحكم إلى المكلف مع فحصه عنه و عجزه عن العثور عليه، لا تستوجب العقاب لما مرّ بيانه من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل، و هي قاعدة تطابق عليها العقلاء جميعا، و إذا تم هذا المثل، عدنا إلى تطبيقه على أحكام الشارع، فالحديث القائل بما مؤداه: «ما من واقعة إلا و للّه فيها حكم حتى أرش الخدش» [1]، تشير

______________________________

[1] الكافي: 1- 241، ح 5، و فيه: «و ليس من قضية إلاّ و هي فيها [الصحيفة الجامعة] حتى أرش الخدش».

______________________________

(1) المستصفى: 2- 116.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 598

إلى مقام الثبوت، أي إلى المرحلة الأولى.

و من البديهي ان جميع افعال المكلفين حاضرة لديه تعالى و عالم بما فيه المصلحة منها مما ليس فيه، و مع حضورها لديه

في مقام الثبوت، فلا بدّ و ان يكون قد جعل لها حكما.

و مرحلة بعث الرسل مرحلة تبليغ لما هو مشرع في مقام الثبوت، و قد تقتضي مصلحة التدرج في التبليغ تأخير تبليغ بعض الأحكام كما وقع ذلك في أول البعثة.

أما مرحلة الفعلية فهي مرحلة وصول التكاليف.

و بهذا يتضح ان ظنون المجتهدين- لو تمت حجيتها- فهي لا تتعدى دور تنجيز الأحكام و إيصالها إلى المكلفين، أي إعطاء الأحكام صفة الفعلية و الوصول، لا أن الشارع يخلق أحكاما على وفقها كما يريد ان يقول الغزالي.

و من هنا تتبين أوجه المفارقة في كلامه، فقوله: «إن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه»، إذا أراد به الحكم في مرحلة الفعلية فهو صحيح، و إن أراد به- كما هو ظاهر كلامه- الحكم بما هو حكم صادر من الشارع في مرحلة التشريع فهو مستحيل لاستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه، للزوم الدور لبداهة ان العلم يستدعي معلوما سابقا في الرتبة عليه، إذ لا يعقل، كما يقول هو، ان يكون علم لا معلوم له، فإذا افترضنا ان العلم موقوف على وجود معلومه، و هو الحكم، و افترضنا ان الحكم لا يوجد إلا بعد بلوغه- أي بعد العلم به- لزم الدور بداهة لتوقف كل منهما على الآخر المستلزم لتوقف الشي ء على وجود معلومه، و هو الحكم، و افترضنا ان الحكم لا يوجد إلا بعد بلوغه- أي بعد العلم به- لزم الدور بداهة لتوقف كل منهما على الآخر المستلزم لتوقف الشي ء على نفسه، و ذلك بإسقاط المتكرر منهما. فقولنا: العلم موقوف على الحكم، و الحكم موقوف على العلم به، ينتج بعد إسقاط المتكرر ان العلم موقوف على

العلم، أو الحكم موقوف على الحكم. و من هنا قالوا باستحالة تقييد الأحكام بخصوص العالمين بها.

و ما يقال عن العلم يقال عن الظن، لأن الظن يستدعي افتراض مظنون سابق

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 599

في الرتبة عليه، فإذا افترض ان الحكم لا حق له كما افترضه الغزالي- حين قال:

«ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن بالحكم يتبع الظن، و حكم اللّه تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه»- لزم الدور بنفس التقريب السابق.

كما تتضح أوجه المفارقة بقوله: «أما المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم أنه لا حكم فيها، لأن حكم اللّه خطابه» و ذلك لأن مرحلة الخطاب ليست هي مرحلة الجعل، و إنما هي مرحلة إبراز للمجعول.

و الحقيقة ان دعوى ان أحكام اللّه تابعة لظنون المجتهدين دعوى لا يمكن تقبلها بحال إذا أريد منها ظاهرها، و حسبها- بالإضافة إلى ما قدمناه- نسبة تبني كل ما يقع فيه المجتهدون من تناقضات في الأحكام إلى اللّه عز و جل و اعتبارها أحكاما مجعولة من قبله، على ما في الكثير منها من البعد عن المصالح أو المفاسد الواقعية التي تخطئها ظنون المجتهدين في الكثير من الوقائع عادة.

التصويب المعتزلي و مناقشته:

و هو الّذي نسب إليهم في المصدر السابق «1» كما نسب إلى الشافعي في المستصفى حيث يقول: «أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى إثباته، و إليه تشير نصوص الشافعي رحمه اللّه، لأنه لا بد للطالب من مطلوب، و ربما عبرو عنه بأن مطلوب المجتهد الأشبه عند اللّه تعالى و الأشبه معين عند اللّه» «2»، «لكن المجتهد لم يكلف بإصابته، فلذلك كان مصيبا و ان أخطأ ذلك المعين الّذي لم يؤمر

بإصابته» «3».

و قد وجهت هذه الإصابة بان الأمارة عند ما تقوم على حكم تخلق في متعلقه

______________________________

(1) فوائد الأصول.

(2) المستصفى: 2- 116.

(3) أصول الفقه للخضري: ص 336.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 600

مصلحة مزاحمة لمصلحة الواقع أو مفسدة كذلك، و تتغلب عليها على نحو يرتفع حكم المصلحة الواقعية للمزاحمة، و يبقى الحكم الناتج عن الأمارة، و يكون مفاد الحجية المجعولة للأمارة هو اعتبارها سببا في تبديل الواقع المستلزم لتبدل الحكم تبعا له.

و هذا القول- بناء على هذا التوجيه- يرجع إلى القول الأول لانتهائه إلى القول بعزل الأحكام الواقعية من طريق المزاحمة.

و يرد عليه:

1- ان الأمارة يستحيل ان تكون سببا في خلق مصلحة في متعلقها، لأن الظنون- و هي من الحالات النفسيّة- لا تسري إلى الواقع الخارجي فتغيره لاختلاف مجاليهما، و ليس الظن أكثر من العلم، و العلم بالأشياء- إذا لم يصب الواقع- لا يبدل من حقيقة ما قام عليه، فعلمي بعدم وجود زيد مثلا لا يجعله غير موجود إذا كان في واقعه موجودا، و كذا الظن بوجود مفسدة في شي ء لا يجعلها موجودة إذا كانت في واقعها غير موجودة، و هكذا.

2- ان أدلة الطرق و الأمارات- كما سبق فحصها- لا تفيد أكثر من اعتبارها بمنزلة العلم من حيث ترتيب الآثار عليها، و العلم لا يزيد في نظر العقلاء عن كونه كاشفا عن متعلقه، و فوائد جعلها لا تتجاوز المنجزية أو المعذرية.

القول بالتخطئة و حجيته:
اشارة

و هو الّذي ذهب إليه الشيعة و جمهور من المسلمين من غيرهم، و ربما كان هو الرّأي السائد اليوم.

و فحواه، ان الأحكام الواقعية المجعولة من قبل الشارع لما كانت مستوعبة لجميع أفعال المكلفين- و كانت الطرق و الأمارات و الأصول المحرزة

المجعولة من

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 601

قبله لا وظيفة لها إلا تنجيز متعلقها، أو التماس المعذرية لمن قامت عنده- كان قيام الأمارة و غيرها كعدمه لا يبدل في الواقع و لا يغير، و الواقع يبقى على حاله، فإن أصابه المجتهد كان مصيبا و إلا فهو مخطئ معذور.

و تسمية ما قامت عليه الأمارة أو الأصل بالحكم الظاهري إنما هي «لمكان احتمال مخالفة الطريق و الأصل للواقع و عدم إيصاله إليه، و إلا فليس الحكم الظاهري إلا هو الحكم الواقعي الّذي قامت عليه الأمارات و الأصول مطلقا، محرزة كانت الأصول أو غير محرزة، و هذا هو الّذي قام عليه المذهب، و يقتضيه أصول المخطئة» «1».

و الظاهر ان أدلة الأمارات و الأصول التي سبق عرضها هي التي تقتضي ما ذهب إليه المخطئة، إذ لا تدل على أكثر من المنجزية أو المعذرية.

القول بالمصلحة السلوكية و مناقشته:

و هو الّذي أخذ من التخطئة و التصويب معا، و قد ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سرّه حيث التزم بالطريقية بالنسبة إلى مفاد أدلة حجية الطرق و الأمارات من دون ان يكون هناك أي تصرف في المتعلق يزاحم به الواقع المجعول بحق الجاهلين و العالمين على السواء، كما التزم بسببية الأمارة لخلق مصلحة في نفس السلوك لا في المتعلق «و تلك المصلحة مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع» «2».

فهو آخذ من المخطئة التزامهم بجعل الطريقية للطرق و الأمارات، و من المصوبة كونها سببا في خلق المصلحة.

______________________________

(1) فوائد الأصول: 1- 142.

(2) المصدر السابق: ص 37.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 602

و أهم ما يورد به على هذه الفكرة عدم نهوض الأدلة بها، لأن هذه الأدلة التي تقدم الحديث

عنها في أكثر الأبواب السابقة ليس فيها ما يشير إلى أكثر من جعل الطريقية أو الحجية لما قامت عليه، أما خلق مصلحة في السلوك فلم تتعرض له بقليل أو كثير، و قد قرب بعض الأساتذة رجوعها إلى التصويب المعتزلي و حملها بعض مفارقاته، و ليس المهم تحقيق ذلك بعد ان كانت الأدلة ليست ناهضة بأكثر من جعل الطريقية لها.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 603

خاتمة المطاف القسم الأول

الاجتهاد (8) نقض الاجتهاد و عدمه

اشارة

تحديده النقض و القاعدة الخلاف في المسألة أدلة القائلين بالاجزاء في مقام العمل أدلة نفي الحرج دعوى ان الاجتهاد الأول كالثاني القول بأن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين دعوى الإجماع على الاجزاء القول بالاجزاء في مقام الحكم عدم النقض و التسلسل الاستدلال بقول عمر بن الخطاب نتيجة البحث.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 605

تحديده:

و يراد بنقض الاجتهاد تحول المجتهد عن رأي سابق انتهى إليه باجتهاد إلى رأي آخر مضاد له اقتضاه اجتهاد لا حق بعد تبين الخطأ له في اجتهاده الأول، و يتصور هذا النقض و تبدل الرّأي في مقامين:

1- مقام العمل و الإفتاء.

2- مقام القضاء و فض الخصومات.

و قد حررت هذه المسألة في كتب الأصوليين من الشيعة في مباحث الألفاظ و عرض لها مفصلا في (مبحث إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي).

و قد وقع الخلاف بين الأعلام فيها، و قبل ان نعرض التفصيل و التماس أدلتها، نود ان نتحدث عما تقتضيه القواعد الأولية في هاتين المسألتين.

النقض و القاعدة:

و الّذي يقتضي ان يقال ان القاعدة مرتبة على المباني السابقة في مسألة التخطئة و التصويب، و مقتضاها الاختلاف باختلافها.

فالقائلون بالتصويب بمفهومه الأول- أعني تصويب الغزالي و القاضي- لا بد ان يلتزموا بالإجزاء و عدم جواز النقض مطلقا، بل لا معنى للقول بجواز النقض لعدم وجود موضوع له على مبناهم.

لأن مثل هؤلاء لا يعقل انكشاف الخطأ بالنسبة إليهم لعدم التزامهم بوجود واقع يمكن للمجتهد ان يخطئه أو يصيبه فيما لا نصّ فيه، و تبديل الاجتهاد لديهم و ان استلزم تبدل الحكم، إلا ان ذلك من قبيل تبدل الحكم لتبدل موضوعه لا

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 606

لانكشاف الخطأ فيه.

و القائلون بالتصويب الثاني لا بد و ان يلتزموا بالإجزاء أيضا لتصريحهم بأن كل مجتهد مصيب و ان أخطأ الواقع، و في حدود ما وجهنا به كلامهم السابق لا يبقى- بعد حصول الاجتهاد و خلق حكم على وفقه- مجال للحكم الواقعي لمزاحمته دائما بالحكم الجديد و تغلبه عليه. و تبدل الاجتهاد لديهم يكون كسابقه من قبيل تبدل الموضوع، لا من

قبيل انكشاف الخطأ فيه.

أما على رأي الشيخ الأنصاري قدس سرّه من الالتزام بالتخطئة و المصلحة السلوكية، فالذي يقتضيه الالتزام به هو القول بعدم الإجزاء لاعترافه بأن المصلحة السلوكية لم تصنع شيئا أكثر من تعويض المكلف عما يفوته من المصلحة بسبب سلوك ما جعله الشارع له من الطرق و الأمارات.

اما الواقع فهو على حاله غير مزاحم بشي ء نهائيا، و مع خطأ الطريق الاجتهادي لم يفت المكلف أكثر من مصلحة الوقت في الموقتات مثلا، و قد عوض عنها بالمصلحة السلوكية.

و لكن مصلحة الواقع- مع إمكان تداركها- باقية لم يفت منها على شي ء، و عليه الإتيان بها على كل حال.

و من هنا تتضح القاعدة على رأي المخطئة، إذ مع التزامهم بوجود الأحكام الواقعية و انكشاف خطأ الاجتهاد الأول و عدم تنازل الشارع عن حكمه لعدم جعله في الطرق و الأمارات و الأصول أكثر من الطريقية أو الحجية، و هي لا تفيد غير المنجزية عند المصادفة للواقع و المعذرية عند عدمها. و مع هذا الفرض فلا بدّ من القول بعدم الاجزاء.

هذا كله من حيث القاعدة، و هي لا تفرق بين المقامين: مقام العمل و الإفتاء، و مقام القضاء و فض الخصومة، كما لا تفرق بين الأحكام الوضعيّة و التكليفية.

________________________________________

حكيم، سيد محمد تقى طباطبايى، القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، در يك جلد، مجمع جهانى اهل بيت عليهم السلام، قم - ايران، دوم، 1418 ه ق

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)؛ ص: 607

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 607

الخلاف في المسألة:
اشارة

و لكن بعض العلماء فرقوا بين مقامي الحكم و الإفتاء فالتزموا بعدم جواز النقض في الأول و جوازه في الثاني كالغزالي و غيره «1».

كما فرق

الشيخ النائيني قدس سرّه فيما يبقى له أثر- بعد انكشاف الخطأ بالاجتهاد الثاني- بين العبادات من الأحكام التكليفية و غيرها كالأحكام الوضعيّة، فالتزم بالاجزاء بالنسبة إلى العبادات و عدمه بالنسبة إلى غيرها «2».

و هناك من أطلق القول من الأعلام- فيما يبدو- بالإجزاء استنادا إلى أدلة خاصة ذكروها.

أدلة القائلين بالإجزاء في مقام العمل و الإفتاء:
اشارة

و قد ذكروا لذلك أدلة أربعة هي:

1- أدلة نفي الحرج:

أمثال قوله تعالى وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3».

بدعوى أن مقتضى لسانها هو حكومتها على الأدلة الأولية، بتضييق نطاقها عن شمول ما كان حرجيا من الأحكام. و بما أن الحكم بعدم الإجزاء هنا حرجيّ، فهو غير مجعول على المكلفين في هذا الحال.

و يرد على هذا الاستدلال: أن هذه الأدلة إنما تتم حكومتها في المقام إذا كان مفادها هو نفي الحرج النوعيّ، و إلا لكانت أضيق من المدعى، لبداهة ان القول بعدم الإجزاء لا يستلزم الحرج الشخصي في جميع مسائله.

و مفاد هذه الأدلة- كما هو التحقيق فيها- هو رفع الحرج الشخصي لا النوعيّ

______________________________

(1) المستصفى: 2- 120، و الخضري في أصول الفقه: ص 368.

(2) أجود التقريرات: 1- 206.

(3) سورة الحج: الآية 78.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 608

- و هو الّذي تقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع- و عليه فلا تصلح هذه الأدلة لتأخير القاعدة إلا في موارد الحرج الشخصي، و هي قليلة نسبيا.

2- دعوى ان الاجتهاد الأول كالثاني:

فلا موجب لرفع اليد عنه بالاجتهاد الثاني، و القول بعدم الإجزاء لا يتم إلا برفع اليد عن الاجتهاد الأول.

و يرد على هذه الدعوى: انها إنما تتم إذا كان كلا الاجتهادين حجة، و هذا ما لا يعقل ان يكون، لأن معنى اجتهاده الثاني هو قيام الحجة لديه على بطلان اجتهاده الأولى لاكتشافه خللا فيه، كأن يكون قد أفتى أولا- استنادا إلى إطلاق أو عموم- ثم عثر بعد ذلك على مقيد أو مخصص له، و ليس من الممكن ان يبقى العام على حجيته حتى مع العثور على المخصص أو المقيد، أو يكون قد استند في اجتهاده السابق على رواية كان يعتقد صحتها ثم تبين له كذب راويها، و هكذا.

و

مع هذا الحال كيف يلتزم بعدم ترجيح الاجتهاد الثاني في صورة معارضته له مع انه لا يعدو- في واقعه- باب التعارض بين الحجة و اللاحجة لا التعارض بين الحجتين؟ و من المعلوم لزوم الأخذ بما هو الحجة منهما بالضرورة.

3- القول بأن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين:

و هو الّذي نسب إلى صاحب الفصول «1». و الّذي يؤخذ به عدم وضوح منشأ المفارقة التي سجلها بهذا القول. فهو ان أراد منها ان القضية لا تتحمل اجتهادين مع بقاء حجيتهما للزوم التناقض و شبهه في مدلوليهما، فهو و ان كان صحيحا، إلا أن القائلين بعدم الاجزاء لا يلتزمون ببقاء الحجية لهما معا، لبداهة انكشاف الخلل في اجتهاده الأول المانع من حجيته.

______________________________

(1) أجود التقريرات: 1- 205.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 609

و ان أراد- كما هو ظاهر كلامه- ان طبع القضية الواحدة يأبى ورود اجتهادين عليه من مجتهد واحد، فهو و إن كان مع وحدة الزمان صحيحا أيضا، إلا أنه خارج عن الفرض لافتراضهم تأخر الاجتهاد الثاني عن الأول زمانا. و مع تعدد الزمان لا تأبى القضية الواحدة ألف اجتهاد، و ما أكثر ما تتبدل آراء المجتهدين في المسألة الواحدة.

4- دعوى الإجماع على الإجزاء:

و قد حكاه شيخنا النائيني قدس سرّه «1»، و استند إليه في القول بالإجزاء في خصوص العبادات باعتبار القدر المتيقن من مورده، و جزم بخروج الأحكام الوضعيّة عن المورد لاعتقاده ان فتوى جماعة في الإجزاء فيها «إنما هي لأجل ذهابهم إلى كون الإجزاء هو مقتضى القاعدة الأولية لا لأجل الإجماع على ذلك» «2».

و قد نوقشت هذه الدعوى بإنكار وجود إجماع تعبدي في جميع صور المسألة، «و القائل بالإجزاء انما ذهب إليه لدلالة الدليل عليه باعتقاده. و عليه فلا مقتضى لرفع اليد عما تقتضيه القاعدة الأولية من لزوم الإعادة و القضاء في العبادات بعد انكشاف الخلاف، و لزوم ترتيب جميع آثار انكشاف الخلاف في المعاملات» «3».

و بهذا يتضح ان تفصيل شيخنا النائيني رحمه اللّٰه لا يمكننا الالتزام به و رفع اليد عن

القاعدة إلا إذا تم الإجماع، و القضية تحتاج إلى الفحص في كل مسألة فقهية، لا الحكم فيها ككل.

القول بالإجزاء في مقام الحكم:

أما مقام الحكم و فض الخصومات، فقد يضاف إلى تلك الأدلة على عدم جواز

______________________________

(1) فوائد الأصول: 1- 146.

(2) المصدر السابق.

(3) أجود التقريرات (هامش): 1- 206.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 610

النقض ما تشعر به بعض الروايات من ان الحكم الحاكم موضوعية إذ اعتبرت الراد عليه رادا على اللّٰه «و هو على حد الشرك باللّٰه» «1» من دون ان تفرق بين كون الرد و نقض الاجتهاد مبنيا على اجتهاد أو غيره.

و يرد على هذا الاستدلال: ان إثبات هذا الإطلاق لا يخلو من صعوبة لعدم إحراز كونه في مقام البيان من هذه الجهة، بل قد يقال بعدم إمكان شموله له عادة، إذ مع استكشاف المجتهد ان حكمه الأول كان بغير ما أنزل اللّٰه، فكيف يحتمل وجوب قبوله و حرمة رده و يكون الراد عليه رادا على اللّٰه؟ مع ان رده هذا كان أخذا بحكم اللّٰه بحسب عقيدته.

على ان استفادة الموضوعية لحكم الحاكم لا تتجاوز في تلك الروايات حدود الإشعار لا الظهور، بينما يبدو من صحيحة هشام ان حكم الحاكم لا يسري إلى الواقع فيغيره عما هو عليه، يقول هشام- بسنده-:

«قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: إنما أقضي بينكم بالبينات و الإيمان، و بعضكم ألحق بحجته من بعض، فأيما رجل اقتطعت له من مال أخيه شيئا فقد قطعت له به قطعة من النار» «2».

عدم النقض و التسلسل:
اشارة

و قد استدل الغزالي و تابعه غيره على عدم جواز النقض في الحكم بقوله: «و لو حكم بصحة النكاح حاكم بعد ان خالع الزوج ثلاثا، ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين، و لم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم، فإنه لو نقض الاجتهاد لنقض

النقض أيضا و لتسلسل» «3».

______________________________

(1) الكافي: 1- 67، باب اختلاف الحديث، ح 10. مستمسك العروة الوثقى: 1- 57.

(2) التهذيب: 6- 229، باب كيفية الحكم و القضاء، ح 3. مستمسك العروة الوثقى: 1- 75.

(3) المستصفى: 2- 120.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 611

و يرد على هذا الاستدلال:

1- ان امتناع التسلسل إنما يتم إذا تمت الملازمة بينهما و كانت واقعة في سلسلة العلل و المعلولات، لكنها هنا غير تامة لبداهة ان فعلية نقض الاجتهاد الأول لا تستلزم فعلية نقض النقض لجواز أن يثبت عليه المجتهد- أي النقض- إلى الأخير، و لو استلزمتها فهي من قبيل الملازمات الاتفاقية- إن صح تسميتها ملازمة- لوضوح ان نقض الاجتهاد الأول لا يكون علة لنقض النقض و لا معلولا له، و مع عدم العلية و المعلولية بينهما لا يلزم التسلسل الباطل.

و ما يقال عن فعلية النقض، يقال عن إمكانه لو أراد الملازمة بين الإمكانين، لا بين النقضين الفعليين، فيكون معنى قوله: «لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض» انه لو جاز نقض الاجتهاد لجاز نقض النقض، إذ التلازم بين الجوازين بالبداهة ليس منشؤه العلية و المعلولية بينهما، فلا يكون باطلا.

2- ورود هذا الإشكال عليه نقضا لالتزامه بجواز النقض في مقام الإفتاء، يقول: «اما إذا نكح المقلد بفتوى مفت، و أمسك زوجته بعد دور الطلاق و قد نجز الطلاق بعد الدور، ثم تغيّر اجتهاد المفتي، فهل على المقلد تسريح زوجته؟ و هذا ربما يتردد فيه، و الصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى، كما لو تغير اجتهاده في نفسه» «1»، مع أن لزوم التسلسل- على مبناه- فيه واضح لجواز

أن يقال: لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا و لتسلسل .. إلخ.

و قد وقع بالمفارقة نفسها بعض المتأخرين، كالأستاذ الخضري «2».

______________________________

(1) المستصفى: 2- 120.

(2) أصول الفقه: ص 368.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 612

الاستدلال بقول عمر بن الخطاب:

و قد استدل البعض على عدم جواز النقض بما أثر عن عمر بن الخطاب في المسألة الحجرية المعروفة في علم الميراث «و هي ما إذا وجد مع الاثنين فأكثر من أولاد الأم أخ شقيق فأكثر بالانفراد، و مع أخت شقيقة فأكثر، و استغرقت الفروض كل التركة بأن وجد مع هؤلاء زوج و صاحبة سدس كالأم و الجدة الصحيحة» «1» حيث قضى «بعدم توريث أولاد الأبوين، و لما عرضت عليه المسألة مرة أخرى قضى بإشراكهم مع أولاد الأم في فرضهم الثلث، و لما قيل له:

سبق ان قضيت بعدم إشراكهم، قال: ذلك على ما قضينا و هذا على ما نقضي» «2».

و هذا الاستدلال لا يتم:

1- لمعارضته بما أثر عن عمر نفسه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة: «و لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك و هديت فيه إلى رشدك ان ترجع إلى الحق، فان مراجعة الحق خير من التمادي على الباطل» «3».

2- ان الاستدلال بقول عمر لا يكون حجة لما قلناه من ان إثبات الحجية لقول الصحابي لا تتم لعدم تمامية الدليل عليها، و قد سبق ان عرضنا الأدلة التي استدل بها على كونه من السنة (في مبحث سنة الصحابة) «4» و ناقشناه، كما عرضنا أدلة من يريد إثبات الحجية له على أي حال (في مبحث مذهب الصحابي) «5» و ناقشناها هناك.

______________________________

(1) سلم الوصول: ص 343.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) راجع: ص 127 و

ما بعدها من هذا الكتاب.

(5) راجع: ص 423 و ما بعدها من هذا الكتاب.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 613

نتيجة البحث:

و النتيجة ان القاعدة تقتضي عدم الإجزاء في الجميع، و لا يخرج عنها إلا بدليل خاص، و لو وجد فهو خاص في مورده. أما الأدلة العامة فليس فيها ما يصلح لتعطيل القاعدة في جميع الموارد.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 615

خاتمة البحث

القسم الثاني التقليد

(1) مفهومه و حجيته

اشارة

تحديده لغة و اصطلاحا الخلاف في حجيته رأي الحشوية و التعليمية رأي علماء حلب و القدرية حجية جواز التقليد الغزالي و استدلاله

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 617

تحديده لغة و اصطلاحا:

التقليد في اللغة جعل القلادة في العنق، و منه التقليد في حج القران، أي جعل القلادة في عنق البعير.

و قد عرف في اصطلاح الأصوليين و الفقهاء بتعاريف متعددة، ربما التقت جملة منها في بعض الخطوط العامة له.

ففي المستصفى انه «قبول قول بلا حجة» «1»، و في أحكام الأحكام «عبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة» «2»، و في العروة الوثقى «هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين و إن لم يعمل بعد» «3»، و في مستمسك العروة الوثقى هو «العمل اعتمادا على رأي الغير» «4».

و هذه التعاريف و ما يشبهها مختلفة سعة و ضيقا، فالغزالي و الآمدي أخذا فيه قيد عدم الحجية، بينا أطلق الباقون لتعم تعاريفهم ما قامت عليه الحجة و ما لم تقم، و ربما استفيد من بعض التعاريف تقييدها بقيام الحجة عليها، فتكون مباينة لتعريفي الغزالي و الآمدي.

على ان الاختلاف في هذه التعاريف لم يقتصر على هذه الناحية، فقد أخذ في بعضها الالتزام بقول الغير في مفهومه، بينما اعتبر البعض الآخر العمل فيه اعتمادا على رأي الغير.

______________________________

(1) المستصفى: 2- 123.

(2) أحكام الأحكام: 3- 166.

(3) العروة الوثقى: ص 18، ط. قم.

(4) مستمسك العروة الوثقى: 1- 8.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 618

و قد حاول بعض الأعلام الجمع بينها لاعتقاده رجوع بعضها إلى الآخر و اعتبار المراد منها جميعا هو خصوص العمل. و لكن هذا الجمع غير ظاهر، و يأباه ما ذكروه لاختلاف المفهومين من ثمرات فقهية. و

منها ما لو التزم بقول مجتهد و لم يعمل بعد ثم مات المجتهد، فهو على أحد التعريفين مقلد لالتزامه بالعمل على قوله، و على الآخر ليس بمقلد لعدم عمله بما التزم به. فلو كنا ممن يقول بلزوم البقاء على تقليد الميت، لكان علينا ان نلزم هذا المكلف بالبقاء على تقليد صاحبه- بناء على المفهوم الأول- لصدق عنوان التقليد على التزامه و نلزمه بتقليد الحي- بناء على المفهوم الثاني- لعدم صدق التقليد على التزامه، و ذلك لعدم اقترانه بالعمل على وفق آرائه. و لكن النزاع إنما يكون له ثمرة لو كان للفظ التقليد موضع من لسان الأدلة ليقال بأن المراد منه أي شي ء هو.

و لكن هذا اللفظ لم يرد- فيما يقال- إلا في رواية ضعيفة لا تصلح لأن تكون مستندا لحكم شرعي [1].

و الّذي يستفاد من الأدلة هو لزوم التماس المنجز أو المعذر في كل ما يصدر عنه المكلف من فعل أو ترك، فإن حصل المنجز أو المعذر بجهده أجزأه، و إلا لزم عليه الرجوع إلى الغير إذا كان عالما و الاعتماد على قوله.

و ربما ناسب هذا المعنى تحديد اللغويين له، و كأن المنشأ في تسمية عمل العامي تقليدا هو ما ينطوي عليه من جعل أعماله قلادة في عنق من يرجع إليه و تحميله مسئوليتها، و هذا المعنى أجنبي عن الالتزام.

و مع غض النّظر عن هذه الجهة فالمتبادر من لفظ التقليد عرفا هو المحاكاة للغير في عمله أو تركه لا العمل وحده و لا الالتزام. و الأمر هين ما دام لم يرد لفظ

______________________________

[1] و هي الرواية المأثورة عن تفسير العسكري: (فللعوام ان يقلدوه) و التفسير المذكور مرمي بالضعف لجهالة روايته عن الإمام عليه السّلام. (المؤلف).

القرعة

و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 619

التقليد في الأدلة المعتبرة.

الخلاف في حجيته:
اشارة

و الغريب ان تتعاكس فيه الآراء إلى درجة تشبه التناقض. فالحشوية و التعليمية يذهبون «إلى ان طريق معرفة الحق التقليد و ان ذلك هو الواجب، و ان النّظر و البحث حرام» «1» «و قال قوم من القدرية يلزمهم النّظر إلى الدليل» «2» و هو الّذي نسب إلى علماء حلب «3» أيضا.

و أكثرية المسلمين من الشيعة و السنة على وجوبه تخييرا على اختلاف في اعتبار بعض الشرائط في المفتي سنعرض لها بشي ء من الحديث.

رأي الحشوية و التعليمية:

و ربما وافقهم ابن الصلاح و من تبعه في عهود التقليد من السنة، و قد سبق الحديث منا في مناقشة ما ساقوه من الأدلة على لزوم حظر الاجتهاد و الرجوع إلى خصوص الأئمة الأربعة.

أما أصل مبنى الحشوية في حظر الاجتهاد مطلقا في جميع العصور، فلم أعثر على توجيه له. و الّذي يبدو من عرض الغزالي له في مسألة التقليد الّذي عرفه بقبول قول الغير بلا حجة أنهم يحظرون الاجتهاد حتى في مسألة وجوب التقليد عينا ليكون قولهم بلا حجة، و قد أطال في رده في غير طائل- بعد افتراضه انه قول بلا حجة- و كان حسبه في رده ان يقول ان لا دليل على حجيته.

و مثل هذا التقليد- بالإضافة إلى عدم قيام الحجة عليه- قيام الأدلة القاطعة على الردع عنه، و حسبك ما صرح به الكتاب العزيز من ذمه للمقلدين الذين

______________________________

(1) المستصفى: 2- 123.

(2) المصدر السابق: 2- 124.

(3) القوانين: 2- 161.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 620

اعتمدوا أقوال و أعمال آبائهم كمصدر للسلوك و صدروا عن محاكاة له و تقليد، مع ان آباءهم كانوا لا يملكون من المعرفة شيئا. وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ

وَ إِلَى الرَّسُولِ قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «1»، و رجوع الجاهل إلى الجاهل هو عين هذا النوع من التقليد.

رأي علماء حلب و القدرية:

و إذا كان ما نسب إلى التعليمية من حظر الاجتهاد و النّظر، مبعث استغراب فإن ما نسب إلى القدرية و علماء حلب من لزوم الاجتهاد عينا و حرمة التقليد لا يقل غرابة عن ذلك إذا حمل على ظاهره، و كأنهم أخذوا بظواهر الآيات الرادعة عن التقليد و اعتبروها مصدرا لهم.

و يرد على هذا الرّأي:

1- ان الآيات منصبة على الردع عن التقليد من غير حجة، أي عن رجوع الجاهل إلى الجاهل، لا رجوع الجاهل إلى العالم، بدليل ما ورد فيها من التبكيت أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً فكأن منشأ المفارقة الّذي اقتضى كل هذا التأنيب هو رجوعهم إلى من لا يعلم، أي رجوعهم إلى الجهّال، و التقليد الّذي نذهب إليه هو التقليد الّذي يكون عن حجة ملزمة، أي الّذي يكون وليد اجتهاد في أصله و قطع بحجيته.

2- إن فرض الاجتهاد العيني على جميع المكلفين لا يمكن ان يصدر من الشارع المقدس لما يلزم منه من اختلال النظام و شل الحركة الاجتماعية، و ما رأيك في أمة تنصرف جميعا إلى التماس الاجتهاد و أعماله في جميع مجالات حياتها؟ هل يمكن أن تستقيم أمور دنياها بحال من الأحوال؟ و لا أقل من لزوم العسر و الحرج

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 104.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 621

المتناهيين، و الدين أيسر و أسمح من أن يكلف الأمة بمثل هذه التكاليف وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1».

3- منافاته لجميع

الأدلة القادمة على جواز التقليد، و هي أقوى منه و أصرح.

و ما أدري ما يصنع الناس- على رأي هؤلاء الأعلام قبل بلوغهم مراتب الاجتهاد-؟ أ يلزمون بالتقليد و هو محظور عليهم كما هو الفرض، أو يعملون بالاحتياط؟! و ربما كانوا لا يعرفون موارده أو لا يرون جوازه أو لم يمكن، كما في دوران الأمر بين المحذورين.

و الّذي أتصوره ان هذه الدعوى لم يرد بها ظاهرها، و ربما أرادوا بها لزوم الاجتهاد عينا في أصل مسألة جواز التقليد حذرا من الدور أو التسلسل. و هذا حق لو صح إطلاق كلمة الاجتهاد على الأمور البديهية. و قد قلنا في تعريف الاجتهاد: انه لا يطلق إلا على ما كان فيه جهد و بذل وسع. و العامي هنا لا يحتاج إلى بذل أي جهد ليدرك لزوم رجوع الجاهل إلى العالم، و هو يعيشه بواقعه العملي و يصدر عنه في كل يوم.

حجية جواز التقليد:

و حجية جواز التقليد تكاد تكون بديهية، كما أشرنا إليها، إما لكونها فطرية جبلية، كما يعبر صاحب الكفاية رحمه اللّٰه «2»، أو لأن بناء العقلاء قائم عليها، بل لا يمكن ان يستقيم نظام بدونها ككل، لأن وجودها ضرورة لازمة لطبيعة المجتمعات، و إلا فما أظن ان مجتمعا من المجتمعات، مهما كانت قيمته الحضارية، يستطيع ان ينهض أفراده بالاستدلال بالمعرفة التفصيلية لكل ما يتصل بحياتهم دون ان يكون فيهم علماء و جهال ليرجع جهالهم إلى علمائهم على نحو يكون كل منهم- مثلا-

______________________________

(1) سورة الحج: الآية 78.

(2) كفاية الأصول 539 ط. جامعة المدرسين- قم.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 622

عالما بالطلب و الهندسة و أصول الحرف و الصناعات، و مستوعبا لجميع أنواع الثقافات بحيث يستغني عن أخذ

أي شي ء منها. و حتى الأمم البدائية لا يمكن ان تتخلى عن هذه الظاهرة نسبيا.

و الحقيقة ان تسميتها ظاهرة اجتماعية عامة أولى من تسميتها بالبناء العقلائي، لأنها قائمة على كل حال، وجد تبان من العقلاء أو لم يوجد.

و الّذي نعلمه و نؤمن به ان مجتمع النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم ما كان بدعا من المجتمعات. لينفرد أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية لمختلف ما يحتاجون التعرف إليه من شئون دينهم و دنياهم، بحيث كانوا لا يتفاوتون من حيث العلم و الجهل ليرجع جهالهم إلى علمائهم، و فيهم من كان يشغله الصفق في الأسواق عن تتبع المعرفة من منابعها.

و إذا كانت هذه الظاهرة موجودة على عهد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و هي موجودة حتما- فهي ممضاة من قبله بإقرارهم عليها، و لو كان هناك تشريع على خلافها لأثر من طريق التواتر- عادة- و هو ما لم ينقل حتى من طريق الآحاد.

و ما يحتمل ان يكون ردعا من أمثال تلكم الآيات الناهية عن التقليد لا يصلح لإثباته ما دامت صريحة أو تكاد في الردع عن رجوع الجاهل إلى الجاهل، و هو أجنبي عن هذه الظاهرة أو هذا البناء.

على ان أمثال آيتي (النفر) و (سؤال أهل الذّكر) بناء على ظهورها في التقليد و العشرات من الأحاديث التي أمرت بعض أصحاب الأئمة بالتصدي للإفتاء، أو أرجعت إلى بعضهم للاستفتاء، صريحة في إمضاء هذا البناء و لزوم الأخذ به في الجملة.

و هذه الأدلة- فيما أعتقد- ليست واردة لجعل حكم تأسيسي ما دام هذا البناء قائما في ذلك العصر، و إنما هي من أدلة الإقرار له، فلا حاجة إلى الدخول في

القرعة و الاجتهاد و

التقليد (الأصول العامة)، ص: 623

استعراضها ورد ما أثير حول دلالتها من مناقشات.

الغزالي و استدلاله:

نعم، استدل الغزالي بدليلين لا يرجعان إلى ما ذكرناه من الأدلة، لا بأس بعرضهما و هما:

1- «إجماع الصحابة، فإنهم كانوا يفتون العوام و لا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، و ذلك معلوم على الضرورة و التواتر من علمائهم و عوامهم» «1».

و يرد عليه ان الإجماع بمفهومه الاصطلاحي- أي صدور الفتوى عن الجميع- لا دليل على إثباته، و دعوى ثبوته بالتواتر و الضرورة مصادرة.

نعم، إذا أراد ان هذه الظاهرة كانت موجودة بينهم بالضرورة فهو صحيح و لا إشكال فيه، و لكنها ليست إجماعا بالمعنى المصطلح.

2- «ان الإجماع منعقد على ان العامي مكلف بالأحكام، و تكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لأنه يؤدي إلى ان ينقطع الحرث و النسل، و تتعطل الحرف و الصنائع و يؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم، و ذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش، و يؤدي إلى اندراس العلم، بل إلى إهلاك العلماء و خراب العالم، و إذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء» «2».

و هذا الدليل- على خطابيته- سليم في إثبات أصل جواز التقليد.

ثم أورد على نفسه، و دفعه بقوله: «فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد و هذا عين التقليد، قلنا: التقليد قبول قول بلا حجة، و هؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع» «3».

______________________________

(1) المستصفى: 2- 124.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 624

و بهذا ندرك ان الاختلاف بين الغزالي و غيره في مفهوم التقليد لا يتجاوز الشكلية، و هو متحد المبنى مع القائلين بجواز التقليد، أقصاه انه لم يسمه تقليدا و إنما عبر عنه بقوله: «العامي يجب

عليه الاستفتاء و اتباع العلماء» «1».

و الأخذ برأي الغير من دون حجة موضع حظر الجميع باستثناء ما مر من الحشوية ان صح نسبة مثل ذلك الرّأي إليهم.

______________________________

(1) المستصفى: 2- 124.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 625

خاتمة المطاف القسم الثاني

التقليد (2) اعتبار الحياة في المقلد

اشارة

تمهيد اعتبار الحياة و الخلاف فيه أدلة القائلين بعدم اعتبار الحياة التمسك بإطلاق الأدلة اللفظية الاستدلال بالقياس بناء العقلاء سيرة المتشرعة الاستدلال بالاستصحاب ما يقتضيه الأصل المعين للوظيفة تسجيل ملاحظة

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 627

تمهيد:

و شرائط المقلد التي ذكروها كثيرة، و الّذي يستحق أن يطال فيه الكلام منها ثلاثة و هي:

1- الحياة.

2- الأعلمية.

3- العدالة.

أما غيرها من الشرائط كالعقل، و الذكورية، و الحرية، و البلوغ، فاعتبار بعضها يقتضي أن يكون من الضروريات، كالعقل مثلا، إذ لا معنى للحديث في جواز تقليد المجانين في حال جنونهم و عدمه، و الباقي ذكروا له أدلة و هي غير ناهضة بالدلالة، إلا ما يحكى من الإجماع على بعضها.

و مقتضى بناء على العقلاء هو عدم التفرقة بين الذّكر و الأنثى، و الحر و العبد، و البالغ و المميز من غير البالغين، مع توفر عنصر الاجتهاد فيهم، و هو الحجة ما لم يثبت الردع عنه، فالعمدة التحدث في خصوص هذه الشرائط الثلاثة.

اعتبار الحياة و الخلاف فيه:
اشارة

و اعتبار الحياة في حجية قول المفتي من الشرائط التي وقع فيها الاختلاف كثيرا، فالأصوليون من الشيعة اعتبروا هذا الشرط و منعوا من تقليد الميت ابتداء، بينما أجاز الأخباريون منهم ذلك.

أما أهل السنة فقد اختلفت كلمتهم في ذلك، فبعضهم أجازوا تقليد الميت ابتداء، كما سوغوا الرجوع إلى الحيّ إذا كان متوفرا على شرائط التقليد، و منع

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 628

البعض الآخر من تقليد الأحياء لقصرهم التقليد على الأئمة الأربعة.

و الظاهر ان خلاف الأخباريين لرأي الأصوليين من الشيعة إنما هو لاختلافهم في وظيفة المجتهد عند الفتيا. فالأخباريون يرون ان وظيفة المجتهد لا تتجاوز نقل مضمون الرواية بفتياه، و ليس له ان يستند في الفتيا إلى مقدمات نظرية، فهو مخبر عن المعصوم، و لا يشترط الحياة في حجية خبر المخبر باتفاق الكلمة. بينما يرى الأصوليون و غيرهم ان المجتهد مستنبط للحكم من الأدلة، و قد يكون بعضها نظريا، و ما

دام كذلك فهو ليس بمخبر حين يفتي عن المعصوم- إلا بضرب من التسامح- و إن أخبر عن الحكم أو الوظيفة.

و على هذا، فإن دليل الحجية بالنسبة إلى المفتي إنما يتقوم برأيه القابل للنظر و التبدل، و هو يمكن ان يكون منوطا بالحياة. فاختلاف الأخباريين مع الأصوليين اذن اختلاف في أصل وظيفة المجتهد لا في شرائط الإفتاء. و خلافهم في هذه المسألة لا يصلح ان يكون خلافا في موضع الكلام، لأنه بالنسبة إليهم أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

و خلاف ابن الصلاح مع إخوانه من أهل السنة، و إصراره على حظر التقليد لغير الأئمة الأربعة منشؤه إجماع المحققين و بعض الأدلة، و قد علمنا في مبحث سابق قيمة هذه الأدلة فلا نعيد فيها الكلام.

فعمدة الخلاف اذن هو ما بين الشيعة و أكثرية أهل السنة في اعتبار هذا القيد و عدمه.

و الأقوال الأخر إما ليست ذات موضوع لاختلافها في أصل وظيفة المجتهد، أو ليست بذات أهمية لعدم استنادها إلى أساس.

أدلة القائلين بعدم اعتبار الحياة:
اشارة

و قد استدل القائلون بعدم اعتبار هذا الشرط، أو استدل لهم بعدة أدلة نعرض

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 629

ما عثرنا عليه منها و هي:

1- التمسك بإطلاق الأدلة اللفظية:

أمثال آيتي (النفر و سؤال أهل الذّكر) من الكتاب العزيز، و طوائف من الروايات كان بعضها يأمر بعض الرّواة بالتصدي للفتيا الدالة بالملازمة على جواز الأخذ منهم، و كان بعضها الآخر يأمر بالرجوع إلى بعض أصحاب الأئمة و استفتائهم فيما يحتاجون إليه. و مقتضى إطلاق هذه الأدلة هو عدم الفرق بين الأحياء منهم و غيرهم.

و قد أجيب على هذا الاستدلال- بعد الغض عن أن أكثر هذه الأدلة لا إطلاق فيه لعدم كون الشارع في مقام البيان من هذه الجهة-:

أ- ان طبيعة السؤال أو الإنذار أو الرجوع إلى شخص معين تقتضي اعتبار الحياة، إذ لا معنى لسؤال غير الأحياء أو صدور الإنذار منهم أو الرجوع إليهم.

ب- و لو سلّم فإن هذه الأدلة لا يعقل شمولها للمختلفين بالفتوى، إذ لا معنى لأن يعبّدني الشارع بالمتناقضين، و لو على سبيل البدل، لأن معنى جعل الحجية لهما تبنيهما معا من قبله، و كيف يعقل ذلك مع الجزم بمخالفة أحدهما للواقع، و قد سبق الحديث منا في ذلك في مبحث (التخيير الشرعي).

و فرض المسألة لا يتم إلا في صورة اختلاف الحي مع الميت في الفتوى إذ مع اتفاقهما لا ثمرة عملية لهذه المسألة، و مع الاختلاف لا تكون الأدلة شاملة لهما معا ابتداء، و هي إنما يمكن الاستدلال بها في صورة عدم العلم بالخلاف فقط، و مسائلها نادرة جدا لو سلمت المناقشات السابقة فيها.

2- الاستدلال بالقياس:

بتقريب قياسها على عدم اعتبار الحياة في حجية قول المخبر، لأن العلة التي

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 630

أوجبت حجية قول المخبر هي حكايته عن الواقع، فكذلك الأمر في المفتي، و بما أن المقيس عليه لا يعتبر قيد الحياة في حجية خبره

فالمقيس مثله من هذه الجهة.

و الجواب على ذلك: أن هذا النوع من القياس، لم تثبت حجيته لوجود الفارق الكبير بينهما. فالمخبر إنما يستند في إخباره إلى الحس أو الحدس القريب منه، و بقاء الحياة لا يغير في واقع ما أحسه إذا كان صادقا في اخباره، و لذا نرى ان الصادقين في اخبارهم قلما يختلفون إذا حدثوا عن واقعة واحدة، بينما يستند المفتي أحيانا إلى مقدمات نظرية، و هي تختلف باختلاف خبرة المفتين بأصول الاستنباط و مقدار ما يملكون من ذكاء و صبر على البحث، بل تختلف باختلاف المراحل العلمية التي يجتازها المفتي الواحد، و ما أكثر ما عدل المفتون عن فتاوى سابقة لعثورهم على أدلة على خلافها، أو لزيادة تجاربهم في معرفة كيفيات الاستنباط.

و ما يدرينا لو قدر لذوي الاجتهاد من الأموات أن تستمر بهم الحياة ما يدخل الزمن على آرائهم و فتاواهم من التطور و التغيير؟

و مع هذا فكيف يسلم قياسها على الاخبار مع وجود هذا الفارق الكبير؟ و لا أقل من كونه من قبيل القياس غير المقطوع، و قد عرفت في «مبحث القياس» «1» مدى حجيته.

3- بناء العقلاء:

حيث لا يفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين الحي و الميت، و يخير بينهما.

و هذا البناء- لو تم- فهو في صورة التساوي بينهما من حيث العلم أو صورة ما إذا كان الميت أعلم مثلا. إلا انه مما يحتاج إلى إمضاء من الشارع المقدس أو عدم ردع على الأقل- لما قلناه: من ان البناء وحده لا يكفي في تكوين الحجية لما قام عليه-

______________________________

(1) راجع: ص 287 و ما بعدها من هذا الكتاب.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 631

لعدم حصول القطع بمدلوله.

و الإمضاء و عدم

الردع إنما يتحققان إذا فرض وقوع مصداق من مصاديق هذه المسألة أمام الشارع فأمضاها أو سكت عنها، كأن نتصور واقعة وقعت أمام النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم قلد فيها مكلف عالما ميتا- ابتداء- مع وجود عالم حي مساو له أو دونه بالفضيلة، و هما مختلفان بالفتيا، فأقره النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم على ذلك.

و لكن من أين لنا تصور ذلك أو إثباته تاريخيا و مثله نادر الوقوع عادة إن لم يكن منعدما. إذ مع علم المكلف بالاختلاف، لا تصل النوبة إلى تقليد أحد مع وجود المعصوم و إمكان سؤاله و الأخذ منه.

فالقول بوجود البناء العقلائي غير المردوع عنه في خصوص صورة الاختلاف لا يخلو عن افتئات و مصادرة. مع ان هذا البناء مما يشك في وجوده مع الاختلاف حتى بين الأحياء.

على أنه لو صحت استفادة خصوصية الحياة في الأدلة اللفظية، أو ثبت الإجماع «1» على عدم جواز تقليد الميت ابتداء كان ذلك كافيا في الردع عن هذا البناء لو وجد.

4- سيرة المتشرعة:

و هي التي يدعى بلوغها إلى عصر المعصومين.

و الجواب عليها: ان حسابها حساب ذلك البناء، بل هي أضعف منه بكثير لبداهة عدم قيامها على الرجوع الابتدائي إلى الأموات، و بخاصة في صورة الاختلاف.

و كيف تثبت السيرة المستمرة إلى زمن المعصوم؟ اما على مبنى أهل السنة

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى: 1- 16.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 632

فواضح، لرجوعهم جميعا إلى أئمة المذاهب الأربعة و هم متأخرون في حياتهم عن زمن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم جميعا، فكيف يمكن إثبات استمرار السيرة في الرجوع إليهم أمواتا إلى زمنه صلّى اللّٰه عليه و آله و

سلّم؟ و أما على مبنى الشيعة فلأن أكثرهم لا يقولون بجواز تقليد الميت ابتداء، فضلا عن ادعاء قيام سيرتهم على الرجوع إلى الأموات.

5- الاستدلال بالاستصحاب:

بتقريب ان هذه الحجية كانت ثابتة لقول المجتهد حال حياته، و يشك في ارتفاعها بالموت فتستصحب.

و الجواب على ذلك: ان هذه الحجية لا يمكن استصحابها للشك في سعة المجعول و ضيقه. فالحجية المجعولة لا يعلم بحدود جعلها ابتداء، و هل يتسع إلى ما بعد موت صاحبها أو هي مختصة بحال الحياة؟ فإن كانت مجعولة على النحو الأول فهي مقطوعة البقاء، و إن كانت على النحو الثاني فهي مقطوعة الارتفاع، و كلما دار الأمر بين مقطوع البقاء و مقطوع الارتفاع لا يمكن جريان الاستصحاب فيه لفقده ركنا من أركانه، إذ لا يقين سابق بأحدهما على الخصوص، و مع فرض وجوده فلا يوجد شك في أن المتيقن باق- إن كان واسعا- أو انه مرتفع- إن كان ضيقا- لفرض دورانه بين مقطوع البقاء أو الارتفاع.

فالركن المفقود اما اليقين أو الشك، و مع فقد أحدهما لا يجري الاستصحاب.

و في رأي بعض أساتذتنا ان المورد يقتضي استصحاب عدم الحجية لاحتمال «ان تكون حجية فتوى المجتهد مختصة بمن عاصره، و كان من وظيفته الرجوع إليه، و أما المكلف الموجود بعد موته فلا علم بحجية فتواه في حقه من الأول، فيجري استصحاب عدم جعل الحجية في حقه بلا معارض» «1».

______________________________

(1) مصباح الأصول: ص 460.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 633

ما يقتضيه الأصل المعين للوظيفة:

و الرجوع إلى هذا الأصل إنما يكون مع فقد الدليل الاجتهادي أو الأصل الإحرازي و هما مفقودان هنا، كما يدل عليه ما استعرضناه من أدلتهم و ما ذكرناه في مناقشتهما.

و الأصل يقتضي في هذا الموضع اعتبار الحياة لبداهة دوران الأمر فيه بين التعيين و التخيير في مقام الحجية، و ذلك لعدم احتمالنا أية خصوصية للموت- بما هو موت- توجب

تعيين الرجوع إلى الأموات ابتداء، و نحتمل أن تكون للحياة خصوصية مهما كانت بواعث الاحتمال، و متى دار الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية، تعين الأخذ بما هو محتمل التعيين للقطع بحجيته و الشك في حجية الطرف الآخر، و الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها، كما قلنا ذلك مرارا.

و عليه فإن تم ما عرضوه من أدلة اجتهادية على اعتبار الحياة- و هو ما لم نر أية ضرورة لتفصيل الحديث فيه- كان هو المتعين في مقام الاستناد، و إلا فالأصل العملي كاف في إثبات هذه الجهة.

تسجيل ملاحظة:

و الشي ء الّذي أحببت أن أسجله- و ان لم تكن له مدخلية في عوالم الاستدلال على اعتبار الحياة- ما لاحظته من ان في تشريع جواز الرجوع إلى الأموات- في التقليد ابتداء- إماتة للحركة الفكرية التشريعية و تجميدا للعقول المبدعة عن الانطلاق في آفاقها الرحبة.

و قد لاحظت هذا الواقع في كثير من علماء الإسلام من أهل السنّة يوم سدوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد و حصروا التقليد بخصوص أئمتهم، حيث ظلت الحركة الفكرية واقفة عند حدودها لديهم قبل قرون، و ما الف بعد ذلك كان يفقد في غالبه عنصر الأصالة و الإبداع.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 634

كما لاحظت ذلك عند الأخباريين، حين أجازوا لأنفسهم تقليد العلماء من الأموات ابتداء.

بينما نرى نمو الحركة العلمية و تطورها عند العلماء و الأصوليين من الشيعة بما يتناسب و مستوى عصورهم.

و لعل السر في ذلك الجمود يعود إلى ما يضيفه القدم عادة من الغلو في تقديس البشر لكل ما هو عريق فيه، و إعطاء أصحابه قيمة لا يحلم بها الأحياء من الناس، مما يزهد الاحياء في إعمال أفكارهم في أشياء لا تعطي

أية ثمرة عملية لمجتمعهم، و لا قيمة اجتماعية كبيرة لهم، و ما قيمة علم لا ينتفع بثمره أحد من الناس حتى يتشجع أصحابه على الفناء فيه؟

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 635

خاتمة المطاف القسم الثاني

التقليد (3) اعتبار الأعلمية في المقلد

اشارة

المراد بالأعلمية الخلاف في هذا الشرط أدلة المانعين: إطلاق الأدلة اللفظية استقرار السيرة في عهد المعصومين، بناء العقلاء تطابق الصحابة و إجماعهم أدلة العسر و الحرج أدلة اعتبار الأعلمية: بناء العقلاء، الإجماع الأدلة اللفظية الأصل المنتج للوظيفة

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 637

المراد بالأعلمية:

و المراد بالأعلمية هنا ان يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط، لا الأوصلية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب، و كون الفتاوى التي منشؤها الأخذ بالاحتياط تقتضي ان يكون صاحبها أوصل لا تكشف عن علم صاحبها الّذي هو المناط في المرجعية و التقليد.

الخلاف في هذا الشرط:
اشارة

و قد اختلفت كلمتهم في هذا الشرط «فمنهم من لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع و الأعلم و الأدين، و هو مذهب أحمد بن حنبل و ابن سريج و القفال من أصحاب الشافعي و جماعة من الأصوليين» «1» و هو مختار الغزالي أيضا، يقول: «و الأولى عندي اتباع الأفضل، فمن اعتقد ان الشافعي رحمه اللّٰه أعلم و الصواب على مذهبه أغلب، فليس له ان يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي» «2».

و هذا المبنى هو المشهور بين علماء الشيعة، بل «عن المحقق الثاني الإجماع عليه، و عن ظاهر السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة» «3».

«و ذهب القاضي أبو بكر و جماعة من الأصوليين و الفقهاء إلى التخيير و السؤال لمن شاء من العلماء سواء تساووا أو تفاضلوا» «4».

______________________________

(1) أحكام الأحكام للآمدي: 3- 173.

(2) المستصفى: 2- 125.

(3) مستمسك العروة الوثقى: 1- 19.

(4) الآمدي في أحكام الأحكام: 3- 173.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 638

و ذهب إلى ذلك بعض علماء الشيعة ممن تأخروا عن الشهيد الثاني «1».

أدلة المانعين:
اشارة

و أهم ما استدل به المانعون عن اعتبار هذا الشرط بعد ضم أدلتهم بعضها إلى بعض هو:

1- إطلاق الأدلة اللفظية:

و هي التي سبق عرض بعضها في هذا القسم حيث لم تفرق بين الأعلم و غيره، مع اختلاف العلماء عادة في العلم و المعرفة و ندرة الاتفاق في الفتوى. و حملها على صورة الاتفاق حمل على الأفراد النادرة.

و الجواب على هذا الاستدلال يتضح مما مر في مناقشة هذه الأدلة قبل صفحات، و بخاصة ما يتصل منها بامتناع ان يصدر التعبد من الشارع بالأمور المتناقضة.

و مع هذا الامتناع لا بد من حملها على صورة الاتفاق بالفتوى، و هو ليس بنادر كما يدعى، و بخاصة في مورد الآيتين و نظائرهما من الأحاديث، حيث يقل الاختلاف عادة في النافرين و أهل الذّكر لقرب عهدهم بالمصادر الأساسية للتشريع، و هم أشبه بالمخبرين منهم بالمجتهدين، فالقول بندرة اتفاقهم لا نعرف له وجها.

2- استقرار السيرة في عهد المعصومين:

على الأخذ بفتاوى العلماء المعاصرين لهم مع العلم باختلاف مراتبهم بالعلم و الفضيلة و عدم ردعهم عن ذلك.

و الجواب على ذلك هو عدم وجود مثل هذه السيرة مع العلم بالاختلاف، و لا

______________________________

(1) المستمسك: 1- 19.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 639

أقل من الشك المانع من التمسك بها.

3- بناء العقلاء:

على التخيير بينهما غير المردوع عنه من قبل المعصوم قطعا.

و هذا الاستدلال كسابقه لا يتم لبداهة ان بناء العقلاء قائم على خلافه، فالناس عادة لا يرجعون إلى المفضول من أهل الخبرة مع وجود الأفضل و بخاصة في صورة اختلافهم بالرأي، و يرون ان العامل على وفق رأي المفضول مقصر إذا أخطأ الواقع، و قد قرب الغزالي هذا المعنى بقوله: «من مرض له طفل و هو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا، و لو راجع طبيبا لم يكن مقصرا.

فان كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء، فخالف الأفضل، عد مقصرا» «1».

بينما لا يراه العقلاء مقصرا لو قدّر له استعمال دواء الأفضل، و لو أنهى بمريضه إلى الموت.

و علام يبذل الناس أموالهم الطائلة في اختيار المهندس الأفضل، و المعلم الأفضل، و الطبيب الأفضل مثلا، لو لم يكن هذا البناء قائما على خلاف الاعتبار، و على الأخص في صور الاختلاف؟

و سيأتي أن أهم أدلة اعتبار هذا الشرط، هو هذا البناء الّذي لم يثبت الردع عنه بشي ء من هذه الأدلة.

4- تطابق الصحابة و إجماعهم:

و قد استدل به الآمدي على ذلك بتقريب «ان الصحابة كان فيهم الفاضل و المفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من

______________________________

(1) المستصفى: 2- 126.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 640

غيرهم، و لهذا قال عليه السّلام: (عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) «1» و قال عليه السّلام: (أقضاكم عليّ و أفرضكم زيد، و أعرفكم بالحلال و الحرام معاذ بن جبل) «2».

و كان فيهم العوام، و من فرضه الاتباع للمجتهدين و الأخذ بقولهم لا غير، و مع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة و

السلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، و لا أنكر أحد منهم اتباع المفضول و الاستفتاء له مع وجود الأفضل، و لو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره و المنع منه، و يتأيد ذلك بقوله عليه السّلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) «3» و لو لا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى» «4».

و هذا الاستدلال لا يتم صغرى و كبرى. أما من حيث الصغرى، فلأن إثبات الإجماع و التطابق لا يتم بمجرد عدم النقل لما هو معروف بالبداهة من ان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، بل يحتاج إلى نصّ على عدم الخلاف من معاصريهم، أو الاطلاع على واقعهم التأريخي تفصيلا ليصح نسبة الاتفاق إليهم، و هو ما لم يدون أكثره و لا يمكن بلوغه بحال.

و أما من حيث الكبرى فلأن هذا الإجماع- لو تم و تمت حجيته- فهو لا يعدو كونه من الأدلة اللبية التي لا إطلاق فيها ليشمل صورة المختلفين في الحكم، و القدر المتيقن هو صورة الاتفاق فيه أو عدم العلم بالاختلاف على الأقل.

على أنا نشك ان العوام في صدر الإسلام كانوا لا يفرقون بين علي من جهة، و بين أبي سفيان و بسر بن أرطاة و مروان بن الحكم من جهة أخرى، فإذا اختلف

______________________________

(1) مسند أحمد: 5- 109، ح 16692 و 16692 و 16694 و 16695.

(2) فتح الباري: 10- 590 و فيه «أقضاكم علي».

(3) جامع الأصول: 9- 410، كتاب الفضائل، ح 6359.

(4) أحكام الأحكام: 3- 174.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 641

هؤلاء في حكم تخيروا في الرجوع إلى أيهم شاءوا.

على أن الإجماع لو صح وجوده، و قلنا

بوجود إطلاق له يشمل صورة الاختلاف فهو لا يزيد على الأدلة اللفظية، و قد قلنا بامتناع شمولها للمتناقضين لاستحالة التعبد بهما عقلا.

و ما يقال عن هذا الإجماع في عدم إمكان التعبد به في صورة الاختلاف، يقال عن الأدلة اللفظية التي ذكرها- لو صحت سندا و تمت دلالتها على العموم- و قد مر الحديث في حجيتها في مبحث (سنة الصحابة) «1» و (مذهب الصحابي) «2».

5- أدلة العسر و الحرج:

بدعوى انها رافعة لوجوب الرجوع إلى الأعلم لكون تشخيصه حرجيا غالبا.

و المناقشة فيها أيضا واقعة صغرى و كبرى. أما الصغرى، فلعدم وجود العسر و الحرج مع توفر أهل الخبرة في تعيينه، و إمكان الرجوع إليهم. و أما الكبرى، فلما سبق بيانه من أن موضوع أدلة نفي الحرج هو الحرج الشخصي لا النوعيّ، و الحكم يدور مدار وجود ذلك الحرج عند الشخص، فإن وجد لدى شخص ارتفع الحكم بقدره، لأن الضرورات تقدر بقدرها.

و عليه تكون هذه الأدلة أضيق من المدعى. و إذا كانت هذه الأدلة لا تكفي لرفع اليد عن لزوم تقليد الأعلم، فهل هناك أدلة تعين اعتبار هذا الشرط؟

أدلة اعتبار الأعلمية:
اشارة

و قد ذكر العلماء لذلك عدة أدلة نذكرها ملخصة:

______________________________

(1) راجع: ص 127 و ما بعدها من هذا الكتاب.

(2) راجع: ص 423 و ما بعدها من هذا الكتاب.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 642

1- بناء العقلاء:

و هو قائم على الأخذ برأي الأعلام من الأحياء في الأمور المهمة، و من راجع واقع مجتمعة الّذي يعيش فيه و المجتمعات التي يمكنه التعرف عليها لوجد هذه الظاهرة قائمة على أتمها في مختلف مجالات حياتهم و هي ممضاة حتما، و إنما قيدنا الرجوع إلى الأعلم من الأحياء تقيّدا بما نعرف من توفر هذه الظاهرة، و إلا فما علمنا أو حدثنا التأريخ ان أحدا حاول الفحص- في قضية ما وقعت موضع ابتلائه- عن الأعلم في الأموات و الأحياء على السواء، فالظاهرة قائمة إذن على التماس الأعلم من الأحياء بالخصوص.

2- الإجماع:

و قد ادعي على لزوم الرجوع إلى الأعلم في ألسنة بعض الأعلام. و لكن هذه الدعوى لا تخلو من مناقشة لوجود المخالفين من العلماء ممن عرضنا رأي قسم منهم في بداية الحديث.

3- الأدلة اللفظية:

و قد عرضت بعض الأحاديث في هذا الشأن. و لكنها مناقشة أيضا سندا و دلالة. فالعمدة اذن هو البناء العقلائي، فإن تم و إلا رجعنا إلى ما يعينه الأصل المنتج للوظيفة الفعلية.

الأصل المنتج للوظيفة:

و الأصل هنا يقتضي الأخذ برأي الأعلم لدوران الأمر بين التعيين و التخيير.

لبداهة ان رأي الأعلم معلوم الحجية، إما لكونه معينا، أو لأنه طرف الحكم التخييري لوضوح عدم احتمال التعيين في جانب غير الأعلم، كأن يكون لعدم الأعلمية موضوعية في مقام جعل الحجية، و غير الأعلم مشكوك الحجية، و الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها، فالرجوع إلى الأعلم هو المتعين بمقتضى الأصل.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 643

خاتمة المطاف القسم الثاني

التقليد (4) اعتبار العدالة في المقلد

اشارة

تحديد العدالة الخلاف في اعتبارها أدلته: الإجماع، بناء العقلاء، امتناع جعل الحجية لرأي الفاسق، ارتكاز المتشرعة أدلة القائلين بعدم الاعتبار و مناقشتها ما تقتضيه الوظيفة نهاية الحديث

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 645

تحديد العدالة:

و نريد بالعدالة الاستقامة في السلوك- بالسير على وفق أحكام الشريعة الإسلامية الملزمة- و التي تنشأ عن بواعث نفسية، تكون نتيجة دربة و إيمان و تمثل لواقع الإسلام.

و لعل القائلين بالملكة لا يريدون أكثر من هذه البواعث، كما أن القائلين بالاستقامة لا يريدون إلا هذا النوع منها، لا عدم صدور المخالفة الشرعية فحسب.

الخلاف في اعتبارها:
اشارة

و هذا الشرط- فيما يبدو- قليل الخلاف في اعتباره لذهاب الأكثر إلى ذلك.

أدلته:
اشارة

و قد استدل له في كلماتهم بأدلة لعل أهمها:

1- الإجماع:

و قد حكاه غير واحد من الشيعة «1» و السنة «2»، و اعتبره البعض رادعا عن الأخذ ببناء العقلاء بناء على قيامه على التخيير بين العادل و غيره، و هو غير قائم في مثل هذا المقام، كما يأتي إيضاحه.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى: 1- 34.

(2) الخضري في علم أصول الفقه: ص 371 و غيره.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 646

2- بناء العقلاء:

على اعتبار، بدعوى أن العقلاء لا يساوون بين المستهتر- فيما يؤمن به- و المتقيد بحرفية ما يقول. فهم أقرب وثوقا و اطمئنانا إلى العامل برأيه من غيره في صورة تساوي أهل الخبرة حتى مع الوثوق بصدق ما يخبر به من رأي.

و هذا النوع من البناء- لو نوقش في وجوده- بالنسبة إلى مطلق أهل الخبرة في بقية المواضع فلا أظن ان المناقشة تتم بالنسبة إلى عوالم التقليد و مشابهاته، فالناس بطبعها ترى في المقلد- بحكم مهمته التشريعية- موضعا للاقتداء و المحاكاة لا أخذ الرّأي عنه فقط.

و من الصعب عليهم تفكيكهم بين ما يوحيه انحراف شخصيته لو كان الإيمان بقوله. فهم في هذا الحال ينساقون إلى الأخذ عمن توفرت جوانب الملاءمة بين فعله و قوله، و ترك الآخر لو خلوا و طبعهم.

3- امتناع جعل الحجية لرأي الفاسق:

على ان الشارع لا يمكن ان يلزم بالرجوع إلى الفاسق، و يجعله موضعا لاقتداء و محاكاة، لعلمه ان العامة أسرع ما يكونون إلى التأثر بواقع المقلد و محاكاته منهم إلى الأخذ بقوله.

فلو قدر لمقلد ان ينهى عن شرب الخمر مثلا و هو يعاقرها ليل نهار، لكان تأثيره على العوام- بعد تلقيهم المسوغ الشرعي في الرجوع إليه- في التسامح بشربها أكثر بكثير من ألف قول يصدر عنه بتحريمها.

و من هنا قيل: ان وظيفة المرجع وظيفة إمامة. و فساد الإمام فساد لرعيته، و الأمم إنما تنهار بانهيار ساستها و قادتها.

و ما أكثر ما شاهدنا و حدثنا التأريخ من انهيار مجتمعات لانهيار حكامها الذين اتخذوا من أنفسهم قادة للناس أو اتخذتهم شعوبهم- بدافع من محاكاة الضعيف

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 647

للقوي- مثلا تقتدي في السلوك.

ارتكاز المتشرعة:

و يؤيد ما ذكر ما ورد في المستمسك من ان المرتكز عند المتشرعة هو «قدح المعصية في هذا المنصب على نحو لا تجدي عندهم التوبة و الندم، فالعدالة المعتبرة عندهم مرتبة عالية لا تزاحم و لا تغلب.

و الإنصاف أنه يصعب جدا بقاء العدالة للمرجع العام للفتوى، كما يتفق ذلك في كل عصر أو جماعة إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة و محاسبة، فإن ذلك مزلة للأقدام» «1».

بقيت أدلة لفظية ذكروها لاعتبار العدالة و هي غير ناهضة في سندها و دلالتها، فلا حاجة إلى عرضها و مناقشتها.

أدلة القائلين بعدم الاعتبار و مناقشتها:

و أهم الأدلة التي ذكروها على عدم الاعتبار هو التمسك بإطلاقات الأدلة اللفظية السابقة، و هي لا تفرق بين العادل و الفاسق.

و الجواب عليها هو نفس الجواب الّذي مر في اعتبار شرط الحياة، فلا نعيد.

و دعوى الإجماع على عدم التفرقة بينهما- أعني الفاسق و العادل- يدفعها ما ادعي من الإجماعات على اعتبار هذا الشرط عند السنة و الشيعة.

ما تقتضيه الوظيفة:

و مع الغض عن جميع هذه الأدلة نفيا أو إثباتا فالأصل العملي يقتضي اعتبار هذا الشرط لنفس ما ذكرناه سابقا من دوران الأمر بين التعيين و التخيير لاحتمال مدخلية العدالة في الحجية، و عدم احتمال مدخلية الفسق، و هو يقتضي الأخذ

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى: 1- 34.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 648

بالحجة التي فيها احتمال التعيين للقطع بها و الشك في وجودها بالطرف الآخر.

نهاية الحديث:

و الّذي انتهينا إليه- و هو الّذي يقتضينا الأخذ به من وجهة نفسية أيضا- هو اعتبار هذا الشرط، فعلماء النّفس- فيما أعتقد- يشكون كثيرا في سلامة استنباط الحكم الشرعي من غير العدول، لتحكم عوامل التبرير في استنتاجاتهم لأكثر تصرفاتهم الناشزة، و هي عوامل بعضها لا شعوري.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 649

ختام الحديث

اشارة

طبيعة ما رجعت إليه من المصادر المصادر الأساسية المصادر الحديثة المصادر العامة وظيفة الكتاب العمل على تقويم هذه البحوث شكر و تقدير

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 651

و قبل ان أودع القارئ الكريم إلى لقاء آخر- إن شاء اللّه- في الكتاب الثاني من المدخل الّذي تولى التحدث له عن (القواعد الفقهية العامة) على أساس من المقارنة، أحببت ان أقف معه حول أمور قد يكون لها علاقة مّا في صميم ما رافقني فيه من بحوث.

و ربما وجدنا الجواب في بعضها على التساؤلات التي تحدثها عادة أمثال هذه الرفقة الطويلة للتطواف في فصول الكتاب.

و أول هذه الأمور:

طبيعة ما رجعت إليه من مصادر

اشارة

و طبيعة هذه المصادر يمكن إرجاعها إلى أقسام ثلاثة:

1- المصادر الأساسية:

و هي التي ركزت على أفكارها طبيعة البحوث السابقة نقدا و تقييما، و أهم مزاياها: أصالة أفكارها، و عمق تجاربها، و تمثل أصحابها لها، بحيث يصح إطلاق لقب الاجتهاد عليهم، و قد أشرت إلى هذه المصادر في الهوامش غالبا عند ما عرضت آراءها، و تحدثت حول ما جاء فيها من أفكار.

2- المصادر الحديثة:

و هي التي عرضت لنفس الأفكار و حاولت ان تكتبها بلغة العصر و أساليبه المحدثة، و إن لم تزد على تلكم الأفكار أو تبدل فيها في الغالب، و قد وجدت في

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 652

القليل من هذه المصادر أصالة الرّأي و سلامة النهج.

و مثل هذا القسم من المصادر ربما رجعت إليه- بعد التوثق من صحة النقل عن أصحاب المذاهب و الآراء- لنقل نصّ لم أجد مصدره الأساس بين يدي، أو لم أملك من الوقت ما أستعين به على الفحص عنه، و قد أشرت إلى ما نقلته عنهم في الهوامش أيضا، كما اني أشرت إلى ما استفدته من تجارب بعض مؤلفيها، سواء ما يتصل منها بمنهجة البحث أم محاكمة الآراء.

3- المصادر العامة:

و أريد بها ذلك القسم من المصادر الّذي يرجع إليه لإلقاء بعض الأضواء على طبيعة ما طرقناه من بحوث ككتب الحديث، و التأريخ، و الدراية، و أمثالها مما لا يقع في صميم بحوثنا الأصولية، و ان استعنا بها على تصحيح رأي كائن أو تكوين رأي لم يكن،- أو على الأصح- لم يسبق لي ان اطلعت عليه في تجارب السابقين من الأعلام.

و الثاني من هذه الأمور ما يتصل منها بتحديد.

وظيفة الكتاب:

و أظن ان القارئ الكريم أدرك من استعراض فصول هذا الكتاب و تجاربه ان وظيفته و ان كانت تاريخية و تقييمية كما رسمها منهج البحث إلاّ ان عنايته انصبت في الدرجة الأولى على الجانب التقييمي لإيماننا بأنه هو الأساس و المنطلق للفصل في جميع الآراء الفقهية التي سنعرضها في أجزاء الكتاب القادمة.

و لهذا السبب كان اهتمامنا موجها إلى عرض جل مباني و آراء المجتهدين في المسائل الأصولية، و لم يكن من همنا البحث عن جميع معتنقيها و استعراض أسمائهم و تحقيق صحة النسبة إليهم، لأن ذلك يخرجنا عن طبيعة مهمتنا الأساسية.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 653

إذ غاية ما تدعو إليه طبيعة المدخل إلى دراسة الفقه هو الإحاطة بالمباني المختلفة و التعرف على السليم منها من غيره تمهيدا للدخول في مجالات إعمال الملكة في مسائلها الفقهية.

و ظني ان الكتاب أحاط نسبيا بهذه المباني و ان لم يذكر جميع أسماء معتنقيها من المجتهدين، و من ذكره منهم لا يتحمل مسئولية خطأ النسبة فيما ينسبه من آراء إليه، ما دام قد أشار إلى مصدر ذلك الرّأي إن لم يكن قد أخطأ في نسبته إلى ذلك المصدر.

و للسبب نفسه، نرى أنه لا جدوى لذكر أكثر من

مصدر واحد للمبنى الواحد، و ان ذكر في عشرات المصادر، لأن الإكثار من ذكر المصادر من التطويل غير المستساغ و هو مما لا يقتضي ان يكون إلاّ في حالات نادرة تقتضيها بعض الملابسات التي تحيط بذلك المبنى.

و ربما اخترنا من بين المصادر مصدرا لبعض المباني و أكثرنا من الرجوع إليه في كل ما يتصل بذلك المبنى نظرا لإيماننا بأن هذا المصدر قد وفق أكثر من غيره في عرض ذلك المبنى و أدلته و كل ما يرتبط به، و لاعتقادنا بان هذا مما يسهل على الناقد مهمته بالرجوع إليه إذا أراد التعرف على واقع ما سجله هذا الكتاب.

و ثالث الأمور هو:

العمل على تقويم هذه البحوث

و هو ما سبق ان طلبناه في المقدمة و نحاول تأكيده الآن، فان تناول هذه البحوث بالنقد الموضوعي و تقويم ما لم يستقم منها بالإشارة إلى مفارقاته أساس في نجاح هذه المحاولة و الاستفادة من عطائها في مجالات التشريع.

القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، ص: 654

شكر و تقدير

و الّذي أرجوه- و أنا في ختام الحديث- ان لا يفوتني تقديم أجزل الشكر و أعمق الامتنان للطليعة المبدعة من خريجي و طلاب (كلية الفقه) في النجف الأشرف الذين كانوا السبب في تدوين هذه النصوص، و على الأخص من لاحقني منهم باستفساراته و مناقشاته. سائلا المولى عز و جل ان يوفقهم جميعا إلى ما فيه خير الفكر، إنه ولي التوفيق.

محمد تقي السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم النجف الأشرف 27 ربيع الثاني سنة 1383

________________________________________

حكيم، سيد محمد تقى طباطبايى، القرعة و الاجتهاد و التقليد (الأصول العامة)، در يك جلد، مجمع جهانى اهل بيت عليهم السلام، قم - ايران، دوم، 1418 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.